يا أيها النمل يا أيها النمل …(لمن يقرأ)

20 أكتوبر 2022
يا أيها النمل يا أيها النمل …(لمن يقرأ)

بقلم : سهل الزواهرة

على أبوابِ قِمَّة ترقد كجيفةٍ أُمة اختَصرَت نَفسَها بإِرادَتِها و التهمت بطنها بطرًا و رّكَّبَتْ ضَعفَها ضَعفًا فأَصبَحَت مَثلًا للسُقوط و مَثارًا للتَّندُر بينَ المِلل و النِحل، أَضاعتْ مَفاتيحَ الخورنق و باعتْ مِعراجَ الأرض لِملعوني السماء بِثَمنٍ بَخس بِسُخرة البقاءِ و التَّبرُك بِشواطىء مُدنٍ سُرقَت حُروفها و تَعبرنت بعد أن هجَرَ أهلُ لُغَتها لُغَتهم و شَيعوا أنفتَهُم إلى مثواها الحالك و استبدَلوها بأَوثانٍ أَعجمية تُديرُ رُؤوسَهم و تعبثُ بِعُروشَهم مِن وراءِ جُدر زجاجية أو بِحارٍٍ افترشتها بَوارج تنشُر الفزَعَ في القلوبِ و الدروبِ، يساندها مَصارف السَّطو الأُممية المُخْتَصة بِرهنِ البُلدان و الوِلدان و جرِّ حاضر الشعوب من ذوائبه المُسَرَّحة إلى بِركٍ ذات مياه آسنة ضحلة تَفاعلتْ فيها ذرات الفشل فصيرتها دمنًا و أطلالًا من طينٍ لا ينمو فيها إلا طحالب التنفع و التبرير و لا ينتشي بها خلا أهلَ التقلب و التفىء في ظلال الوصاية و الدروشة يذُب عنهم جحافل أفاعي الأفواه المُلتفة نفاقًا و تقديسًا للذات النهمة لمزيدٍ من السقوطِ و التخدير و التقزيم .

وهنا لم نَجد مناصًا مِن نَصبِ مَجالسِ العزاءِ وأخذ الخواطر و دعوةِ كل نائحةٍ ونائحٍ لِلبُكاءِ و العويلِ على حالِ أُمةٍ فَقدت كُل ما ترتفعُ بهِ الهامة أو يَشمخُ له الصدر أو يتَّقد فيه الذهن ، حالٌ لا يُمَجِِده إلاَّ مأفونُ قلبٍٍ أو مأزومُ رأسٍ أو عبد عصا ، و لا يُعجَبُ به إلاَّ فتاة أبيها.

أُمة اختصرتها جامعةٌ فأُغلقت قاعاتُها و أقسمَ سَدَنتها ليَصرِمنها مُصبحين و لا يَستثنون ، و استعذبوا القيود و قدسوا الحدود وتمثلوا بقيان الطوائف و راقهم التيه فأقاموا فيه كلٌّ يخفي خنجره المعكوف خلف ظهره المُنحني متربصًا بأخيه و ابن أخيه ، و راحوا سِراعًا كفَراش نارٍ إلى أحضان غولدا تحكي لهم على وقع الكليزمر حكايا أبناء العمومة و طيب الأُرومة و النسب المشتبك و المصير المشترك و الأب الواحد أفراهام و نسله المبارك الممتد ، فصدقوها رغبةً و رغمًا و أقاموا محاريب المكائد و نحروا الإبل و بسطوا الموائد احتيالًا على المُسلَّمات و العقائد و فاضت مشاعرهم العارية دولارًا و زيتًا ،خوفًا و جهلًا إيمانا بتلك الحَكايا المُختَلقة الرابضة في غيابات جبٍّ امتلأ حتى بابه كذبًا و سُحتًا.

كم حلُمنا بسذاجة أن تَكون مَصائب العرب عيدًا لإحياء الميت و تَقويم المُعوَج و إِصلاح ما فسُد و لكن حالَ الجريصُ دون القريض، و توالت مَواقف الخُنوع و الطأطأة بِلا جديدٍ يُذكر و لا أَثرٍ يُؤثَر، مَواقف ضغاء رُغم جللِ الخُطوب و ما يكتَنفُ شعوبهم و دُولهم بأقصاها و قرنها و نهرها ، فلا خيرَ عِندهم و لا مير، فكيف تَرجو من تابعٍ نصرًا و من عاجزٍ فِعلٍا، كلامُهم بين تبجيل و دمدمة ، بأسهم بينهم بأس مَردة و على عدوهم نسانيس قردة ، صَمتوا ألفًا و نطقوا خلفًا، أسكتَ الله نأمتهم.

غِياباتٌ بالجُملة عن عُكاظِنا المُحاصَر و أسوأ الغياب غياب حاضر ، سوق هجَرهُ “زُهير و الخنساء و عنتره ” فلا حِكمة و لا صخر و لا مَفخَرة، و حل مكانهم رحًَبَ و ألقى و أدانَ هذا و ذاك استنكرَ ” نِصابُ ناقص و لو اكتمل لما انعدل ، فالريشُ في الميزانِ خفيفٌ و رأسُ مالِه نَفخة غُلام فيتطاير مُتبعثرًا في هواءٍ تسمَمَ برائحةِ الخُذلانِ و الغازِ ويتساقط على أرضٍ سالت على رَوابيها أنهار من الدماءِ و تَدحرجت صُخورها على جماجِمِ أَطفالٍ و نساءٍ و تبَخَر من ترابِها أمانٌ مَزعومٌ كَحملٍ كاذب .

و أكلَ الناسُ على الخسفِ و تهوَّدتْ أَرض كَنعان و كُبِّلَتْ قُدسُها و خُنِقَتْ غَزَتُها و بَارت بياراتُ يافاها و حَفَّ النَجَسُ حَيفاها و بيت لحمها تقطع و مهد مسيحها تَصدَّع و أضحت قضيتها سِلعةً لِسُلطة ذات رواج وجدوى فتسابق التجار إلى بيعها غير مرة و تأجيرها تنسيقًا و رهنها أخرى و الضرب باسمها شرقًا و غربًا ، و اغتيلت دِمشقُ و انبعث أشقاها فأجدبت غُوطَتُها و قَبَحت بَراميل الفتكِ ذُراها، و ضاعت بَغداد وتلوَث فُراتُها و عادت في جَيبةِ ساسان حَبيسة مُقمحة، و انهارَ سَدُّ مأرِب بيَمَنهِ التعيس و ضاقت مضائقه و جالَ الجُوع على بطونِ العاربة، و جفَّ خَليجُ العَرب و تَحكَّم الأَعاجم و زوِّرت كُتبُ الأَعلام و التراجم و صُلِبَ المُهلَّب وحلَّقت روح مسيلمة وطافت ، و أعسَرت عَسير و بَكتْ بَكة، و تردَّت بُرقة الى القاع و تاهَ شَيشْنَق وضاعت قوائم مُلكه ، و تقزَّمت أرض الكِنانة و سادَ السَفه، وباتت وجارتها السمراء جَارية لِنيلٍ مَذبَحُه في الحبشة، و تَهاوت جنَّات الفينيق و اكتَست بالقِمار و الديون و القمامة ، و تعملق لصوص الحقوق والإغراق و أمعنوا تزويرًا و تلاعبًا بمياه النهر المقدس فداءً لهيكلٍ و كيان و تَسلل العقيرب في رابعةِ الثلاث و طمس عُقبة و أحرق الزيتون ، و تَسلَّطَ على حُقول العرب لُصوص فارس و تلاعب إيفان و بنو الأصفر بِحاضِرِنا و زَوروا تاريخَنا و امتطوا مُستَقبلنا و حازوا ثَرواتنا ،و ضجَّ أهلُ البَقيع على العدلِ الذي سُرِق و شَقَّت حرائرُ أُمية الجيوبَ على عِزةٍ تلاشت و داستْ خُيولُ المَغول قبر المنصورِ و بَنيه و اختُزلَ ابن عثمان بِمُسلسَل وغدت قمة الإنجاز و التضامن طبل في وهران أو هتاف في طنجة ، و أصبحنا كوادٍ نملٍ ليس فينا نَملة حُرَّة تُعلمنا كيف ندخُلُ مساكننا و نَؤوب الى كرامتِنا لِنحفظ القليل الباقي علَّهُ يكون زادًا و وقودًا لِهبةٍ حُسَينيةٍ أو نخوةٍ شيبانية تُعيد الرُوحَ لهذا الجسدُ المُنهك خِيانةً و غدرًا وفجورا ….