عندما يضع الملك ضمير العالم على المحك

27 سبتمبر 2022
عندما يضع الملك ضمير العالم على المحك

بقلم : الأب نبيل حداد 

في أيلول من كل عام تنتظر الجمعية العامة للأمم المتحدة كما العالمُ الاستماع لخطاب جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين من علىمنبرها واضعا النقاط على الحروف.. وضمير العالم على المحكّ. ونصت في كلّ مرة مع الوفود المشاركة من ممثّلي المجتمع الدوليالى النطق السامي، وما فيه من طروحاتٍ تحمل الحكمةَ والمشورة،  وحرصاً على الانسانيةِ وخير الشعوب.

في المشهد الأممي لأيلول هذا العام، كما في كلّ عام، كثيرٌ من الملامحالهاشمية. فالملك يعرض الحقائق  دون مواربة. ويشخّص الوضع العالمي ويعرض هموم الشعوب باهتمامٍ نابعٍ من إنسانيته. ويضع اسئلةً أمامصُناع القرار،  ويقدّم الرأي ويقترح حلولاّ  توفر فرصاً جديدة للجميع، من أجل مستقبل مفعم بالكرامة والأمل. فكان هذا الخطاب بحقٍّ، بُوصلةً للعالم يستهدي بها، وشكَّل مفصلاً في تاريخ المنظمة عندماوضع الإرادة الدولية أمام مسؤولياتها  مُذكِّراً  بأن خير الانسانيةيقتضي إعادة  قراءة الاشياء.

من على المنبر الأمميّ يأتي الدرس الهاشمي الى العالم، ليؤكد أنه لايمكن تجاهلناقوس الخطر الذي يدُقّ من حولنا“، بل على الجميعالتّصدّي له. ويعرِض  معاناة العالم من الصراع العسكري بين روسيا و اوكرانيا والنيتو ومسائل الأمن الغذائي والبيئة والمناخ واللاجئينوغيرها.  

وفي المشهد إصرارٌ هاشمي حكيم وعنادٌ صادق  يصوّر صلابة مواقفِ عملننا التي لا تقبل تطبيعاً يدنّس المقدّس: الأرضَ والمكان والانسان. ويطلق الملك الوصيّ صرخته مجدداً بأنهلا يمكن انكار حق تقريرالمصير للشعب الفلسطيني“.

وكما في كلّ الأوقات، تكون حاضرةً في المشهدِ القدسُ وكرامةُ حجارتها وفضائها وأرواحُ المؤمنين. فمكانة القدس وصمودُ أهلِها وحريتُهاوقداستُها لا يدرك كنهها، ولا تعظم إلا في عيون الأنقياء والأتقياء. وتتأكد الوصاية الهاشمية على المقدسات في بيت المقدس، التي آلتإلى جلالة الملك عبدالله الثاني، فكانت صمّام الأمان الذي يحميالمقدسات، ووسيلة وحيدة تحافظ على عروبتها في وجه سلوكات المحتل وإساءاته تجاه مسيحيي القدس ومسلميها.  فيتوقّف الملك عند القدسأمام الوفود، ليؤكّد  المستقبل غير الواضح  لمدينة السلام الحاملَ للكثيرمن القلق والأخطار المتنوعة التي تعيشها، ومعها عموم الاراضيالمقدسة،  فيما تواجه كل الأجندات السّاعية الى تغيير واقع المدينة واجراءات الاحتلال  الاستفزازية  التي  تؤجج العنف وتغذّي الكراهية.

***

في وطننا الرّحب الذي يؤكّد أن الطريقَ إلى السلام يمرّ بالقدس كمدينة مقدسةٍ تشهدُ دعواتنا وصلواتنا وآمالنا، تظلّ قدسُنا الارضُ والسماءُ والتاريخُ بوصلةَ كلّ المواقف والقرارات والاجراءات التي تقوم بها عمان الوفيةُ بطبعها، من أجل قدس التوحيد والتاريخ والدم العربي.  ومن نافذة الحبّ الاردني المطلة على  إيلياء من قمم جلعاد ومؤاب، أرىمهابة الملك الوصيّ الشريف، وأقرأ مساعيه من أجل كلّ الطائعين منمحبّي مدينة الصلاة والخلاص، فأُحِبّه  أكثر .

وكما في كل المواقف، يتضاعف عندنا وفينا، وفاؤنا الأردني وعاطفةُ الحبّ للقدس والإصرارُ على عروبتها، والوقوفُ من خلف قيادتناالهاشمية، مدافعين عن مساجدنا وكنائسنا. فنثمّن كمسيحيّينمكرمات الوصاية الهاشمية في ترميم المقدسات المسيحية والاسلامية في القدس، والاهتمامَ الملكيّ بالحفاظ عليها، ونقدّر عالياً التبرعاتالسخيّة لترميم قبر السيد المسيح في كنيسة القيامة وكنيسة الصعود، من منطلق خُلق الهاشميين العرب المسلمين واحترامهم للمقدساتالمسيحية. وتتأكد لنا وللعالم كلّ يوم أهمية الدور الذي تحمله الوصايةالهاشمية في الحفاظ على الوجود العربي وحضور المسيحيينَ وأدوارهمالتاريخية في القدس، كجزء لا يتجزأُ من تاريخ هذه المنطقة حاضرها و مستقبلها . فلا يمكن أن يتخيل المرء المدينة المقدسة دون أصحابها، خاصةً في ظل الأوضاع التي تهدّد الكنائس والمعابد والمقدساتالمسيحية، لتتحول في غياب هذا الوجود المسيحي إلى متاحف.

هناك ومن على المنبر الاممي يستحضر الملك، إرثا عربيا مقدسياً هوعهدةٌ عمريةٌ جاءت ثمرة لأول مؤتمر وئام اسلاميّ مسيحي مقدسي. فيتجدد الالتزام بأخلاقيات العهدة ونهجِها بإصرارٍ من صاحبَ الوصايةوهو يسمّي الأمور بأسمائها  وبشكلٍ لا لُبس فيه.  ويعلن كقائدٍ مسلمٍ التزامَه بالدّفاع عن الحقوق والتراث الأصيل والهوية التاريخيةللمسيحيين في القدس الشريف وفي هذا المشرق. فيوقظ جلالتُهالضميرَ العالمي في دعوته المجتمع الدولي الى حماية الحضورالمسيحي والدفاع عن حقوق كنائس القدس التي تتعرض للانتهاك والتهديد بسبب ممارسات الاحتلال البغيضة .ويؤكد من جديد على أنالمسيحية جزءٌ لا يتجزأ من ماضي منطقتنا والأراضي المقدسة. فهناوُلدت الدّعوة المسيحية ومن ارضنا الاردنية المباركة وعند النهر المقدساعتُلنت البشارة المسيحية وظلّت جزءاّ من تاريخٍ امتدّ ألفي سنة، وكانت شريكا في وئام مع الاسلام على مدى أربعة عشرِ قرنا.

ونقرأ رسالة ملكية اعتدنا عليها من صاحب الجلالة تحمل حرصاً معلنا صادراً عن مدرسة الفكر الهاشمي، على صونِ هذا الوجود فيالحاضر، وتأكيداً على أن حضور اتباع السيد المسيح  جزءٌ  اساسيمن مستقبل المنطقة.  وهذا الموقف الثابت المبدئي والواضح والصريح هو موقف مملكة راسخةٍ غادرَت المئوية الأولى وانتقلت إلى مئويتهاالثانية، تبرز أهميته بسبب ما يستشعره جلالته كوصي على المقدساتالاسلامية والمسيحية من خطرٍ يتمثل في تدنيس المكان والاساءةللإنسان، ويعكس في  الوقت ذاته احترامَ القداسة وصونَ الحقوقالشرعية للمسيحيّين والمسلمين وكرامتهم وحريتهم الدينية.

وكإبن للكاثوليكية الشرقية، فأنا أفتخر بأردنيّتي التي أعطتَنيانتساباّ لقداسة وطنٍ، منه انطلقت المسيحية، وهو صاحبُ إرثٍ لا يصحّ أن يكون أمراً مفروغاً منه، لأنه ميزة نفخر بها  دوماً، ويجب أن نحافظعليها ونمنع المساس بها. فهنا أقدم مجتمعٍ مسيحي وله جذورٌ ضاربةفي التاريخ. وشعبنا الأردني يشكّل بمختلف مكوناته  مجتمعا واحدا لايقبل القسمة، وجميعهم شركاء في بناء بلدهم ومستقبلهم. ونعتز بتراث مسيحي عريق منسجم مع التراث الإسلامي، ونعتز أيضاً بأن الأردنيشكّل نموذجا متميزا في التعايش والتآخي بين المسلمين والمسيحيين، ونؤمن أن حماية حقوق المسيحيين في مشرقنا واجبٌ وليس فضلاً أومنّةً، فقد كان للمسيحيين العرب دور كبير في بناء مجتمعاتنا العربية، وفي الدفاع عن قضايا أمتنا.  المسيحيون العرب هم الأقرب إلى فهمالإسلام، وهم الذين أدركوا بحكم وفائهم لأرضهم والدم العربي أنهم مدعوون مع أخوتهم المسلمين إلى العمل معاً من أجل تعزيز تآخيهمووحدتهم  والدفاع عن حقوقهم وخير أمتهم  ومواجهة كل خطاب وكلفعل يسيء إلى وئامهم التاريخي.

وفي هذا المقام، نسجل افتخارنا بالجهود الهاشمية  في مجال التقارببين أتباع الأديان والدعوة للحوار. فقد كانت رسالة عمّان وثيقة هاشميةكرست توضيح قيم الإسلام المتمثلة بالتسامح والتراحم والاحترامالمتبادل، وتوالت بعدها أصوات الاعتدال من حول العالم، لتنضمّ إلىريادة الجهد الهاشمي جهود التصدي للتطرف.  ثم جاءت رسالةكلمةسواء بيننا وبينكم“، دعوة إلى التلاقي في حوار صادق وإيجابي حول القيم المشتركة بين الإسلام والمسيحية، خاصة وصيتي حب الله وحبالجار.

بعد محطة الإنجاز الهاشمي المعهود الذي شهدته نيويورك، نعلن نحنبدورِنا أننا سنبقى نقف مع كل الشرفاء والأوفياء،-كما نفعل اليوم وكل يوم ، ومن خلف صاحب العرش وصاحب الخلق والصوت الأصدق، فيمساعيه من أجل الحق والعدالة والسلام مع دعاء خالص من القلوب، ومع أجراس كنائسنا، أن يمد في عمره ويحفظه وولي عهده والأسرةالهاشمية .