‏يدّ الدولة أم بيانات العشيرة؟

25 سبتمبر 2022
‏يدّ الدولة أم بيانات العشيرة؟

حسين الرواشدة

الفراغ الذي تتركه الدولة ٬ حين تصمت ٬أو تتحرك ببطء٬ أو تصل متأخرة ٬ تملؤه العشيرة على الفور٬ حدث ذلك خلال الأيام الماضية مرتين ٬ مرة في شفا بدران ٬ومرة في ذيبان٬ التفاصيل٬ بالطبع ٬ معروفة٬ لكن المهم هو أن استدعاء العشيرة من الحاضنة الاجتماعية٬ للقيام بدور الإطفاء السياسي أو القانوني ٬ أضرت بالعشيرة وبالدولة معا.

لا أريد٬ أبدا ٬ أن أقلل من دور العشيرة٬ ولا من أهميتها٬ ولا أن أنحاز لمن يطالبون بحذفها من مشاهدنا العام ٬ فأنا أدرك ٬ تماما ٬ أن تركيبه مجتمعنا عشائرية بامتياز٬ وأن العشيرة هي إطار النسب والدم الذي يجمعنا٬ ومن الطبيعي أن نعتز بذلك ‏٬ لكن هذا لا يمنع من الإشارة لمسألتين.

الأولى أن توظيف واستخدام العشيرة كمصدات لتجاوز القانون ٬ أوتخويف الناس من الاقتراب لبؤر الفساد ٬ثم الاحتماء بها ووضعها ندّا للدولة ٬ أعادنا إلى عقود قديمة ٬ كانت فيها الدولة ما زالت في بدايات تأسيسها٬ وأعتقد أننا كبرنا وتجاوزنا ذلك ٬ أو هكذا يفترض.
أما المسألة الثانية ‏٬ فهي أنه منطق الدولة لا يمكن أن ينتصر إلا بسيادة القانون على الجميع ٬ ثم استقامة موازين العدالة٬ وترسيخ قيم المواطنة الحقه ٬ لكن مع حضور العشيرة بهذه الوتيرة الثقيلة التي نراها٬ لا يمكن للدولة أن تتقدم نحو مشروعات التحديث التي اطلقتها٬ يكفي أن نتصور كيف يمكن بناء البرلمانات والحكومات الحزبية في ظل تمدد العشائرية ٬وهيمنتها على المشهد٬ ‏أو كيف نقنع الموظف العام بالتزام القانون ٬واحترام قيم الدولة وهيبتها ٬ ونحن نساعده بفتح ملاذات آمنة تحت مظلة العشيرة ٬ تدافع عنه حين يخطئ٬ أو يقع في ورطة؟

أعرف أن “يدّ” الدولة أطول مما نتصور ٬ وبمقدورها أن تضرب بسيف القانون متى تشاء ٬ لكن ما أعرفه ٬أيضا ٬ هو أن بعض المسؤولين يوفرون مسارات بديلة ٬ بناء على رغباتهم ومصالحهم لآخرين٬ لكي يفلتوا من المساءلة أو ‏المحاكمة ٬ هذه المسارات ٬ غالبا٬ ما تستظل ٬للأسف ٬ بالبيانات والتحركات العشائرية .
الآن ٬ لابد أن نتصارح ونقول: إن هذه السلوكيات صبّت بعكس اتجاه قوة الدولة و حضورها٬ وشوهت صورتها لدى المواطنين٬ بل وأغرت البعض لمقايضة الدولة بالعشيرة او العكس٬ ثم التمترس خلف بيانات تصدر باسم العشيرة٬ وكأنها صكوك غفران ‏تمنح من يخطئ حصانة من الانتقاد ٬ناهيك عن المحاسبة .
إن الاحتكام لمنطق الدولة ٬ بدلا من الاحتماء بمظلة العشيرة٬ هو أول خطوة ضرورية للخروج من حالة ” الطبطبة” السياسية ٬ ومن الاعتماد على الوسائط الاجتماعية كبديل عن الوسائط القانونية ٬ وإذا كان مطلوبا من المواطنين أن يشدوا الأحزمة الاقتصادية ٬ فإن شد الأحزمة السياسية والاجتماعية من قبل مؤسسات الدولة ٬هو واجب الوقت ٬إذ لا يمكن للمواطن الذي يتابع مشهد الخيبات بأداء بعض المسؤولين ٬أو تراخي آخرين عن القيام بواجبهم ٬ ‏أن يتحمل اكثر٬ ثم يقتنع أن باب الفرج قادم ٬ ما دام أن الاعوجاج في سكة إصلاح الإدارة العامة مازال قائما ٬ وربما يتوسع أكثر فأكثر.

أرجو من القارئ الكريم أن يعفيني من شرح ما حدث٬ لأن أفضل ما يمكن أن نفعله أمام بعض ما داهمنا من فضائح٬ هو الصمت والخجل ٬ المهم أن نتجاوز ذلك ٬ونتعلم من دروسه ٬وأولها ‏بناء دولة القانون والمواطنة٬ وإعادة العشيرة إلى مكانها الطبيعي ٬كحاضنة اجتماعية٬ ثم ضرورة تمكين مؤسسات الدولة من الحركة والفاعلية٬ لتصارح الناس بكل ما يجري ٬و تقنعهم أنها جادة فعلا بالتحقيق والمحاسبة٬ وأن كلمتها هي الأعلى ‏٬ والأولى والأخيرة ٬ دون أي اعتبارات لحسابات هنا ٫ أو استرضىاءات هناك.