نضال العضايلة
المتتبع للأحداث الأخيرة في لبنان وسوريا والعراق وحتى إيران، قادر على ربط المجريات ببعضها البعض في المنطقة الجغرافية التي لطالما حلم النظام الإيراني الحالي ببسط سيطرته عليها تحت ما يسمى بـ “الهلال الشيعي”.
حسن نصر الله، عن مشروع حزب الله في لبنان، فيقول: “بالنسبة لنا، ألخص أنه في الوقت الحاضر ليس لدينا مشروع نظام في لبنان، نحن نعتقد بأن علينا أن نزيح الحالة الاستعمارية والإسرائيلية، وحينئذ يمكن أن ننفذ مشروع، ومشروعنا الذي لا خيار لنا أن نتبنى غيره كوننا مؤمنين عقائديين هو مشروع الدولة الإسلامية وحكم الإسلام، وأن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة، وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحق الولي الفقيه الإمام الخميني”.
هذا الخطاب لا يبتعد بالمضمون عن خطابات العديد من الأفرقاء المتقاتلة على الساحة اللبنانية آنذاك. فكل الأحزاب كان لديها مشروع وطني مرتبط إلى حدٍ ما بمشروعٍ خارجي. إلا أن الاختلاف بين مشروع حزب الله والأحزاب الأخرى كان ما أعلنه نصر الله حينها بكل بساطةٍ، ألا وهو أن حزب الله مكون من ” مؤمنين عقائديين”.
هذا الاعتراف يضفي طابع الأبدية على مشروع حزب الله. فوجود الحزب مرتبط بالعقيدة، التي هي مرتبطة بدورها بالمشروع الجهادي، الذي يهدف إلى إقامة الدولة الإسلامية المرتبطة بولاية الفقيه.
كما أن هذا الاعتراف يلغي حزب الله من التركيبة السياسية للبنان. لا بل يجعله، بحسب رأيه، فوق أي مكون سياسي آخر. إذ أن المشروع هو مشروع كبير وجامع للمنطقة بأكملها وبالتالي هو مشروعٌ أسمى مما يطمح إليه الأفرقاء الآخرون.
أما بالعودة إلى الواقع السياسي الحالي في لبنان، فإنه من الواضح أن حزب الله في مأزق على الصعيد الداخلي اللبناني. فممارسات الحزب على الساحة اللبنانية الداخلية لم تترك له الكثير من الأصدقاء داخلياً، سوى ربما التيار الوطني الحر والعلاقة الجيدة-المتأزمة دائماً مع حركة أمل.
إذا أمعنا النظر بهذه المنظومة المسماة حزب الله، نجد أن الممارسات ما بعد تحرير الجنوب اللبناني اختلفت كثيراً عما قبله. فقد اشتغل الحزب على تعبئة الجمهور اللبناني والعربي من خلال بروباغندا “محاربة إسرائيل”، وقد نجح بذلك إلى حدٍ ما.
فهو المنظومة العربية الوحيدة، خارج النطاق الفلسطيني، التي حملت السلاح بوجه المشروع الإسرائيلي في المنطقة. وقد سقط الكثير من مقاتلي الحزب خلال تلك المعارك التي احتلت عناوين الأخبار في لبنان والعالم العربي والتي أعطت للشعوب العربية أملاً ونشوة الانتصار ولو إلى حدٍ ضئيل في معارك ضد الكيان الصهيوني.
هذه المعطيات التي استخدمها حزب الله على مر الزمان في دعايته لمشروعه ارتبطت بنفس الوقت بأحداثٍ أخرى جرت وغابت عن بال الكثيرين. لقد كانت المقاومة الوطنية اللبنانية التي تشكلت من كل من الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي والحزب السوري القومي وحزب البعث العربي الاشتراكي بتاريخ 16 أيلول سنة 1982، لقد كانت تلك الجبهة أول من حمل السلاح بوجه الاحتلال الاسرائيلي بعد غزوه لبيروت.
إلا أن النفوذ السوري بلبنان ساهم باضمحلال هذه الجبهة وتدريجياً تفكيكها لترسيخ حصرية المقاومة بيد حزب الله. ومن ثم أتت مرحلة ما بعد تحرير جنوب لبنان، حيث أعلن حينها حزب الله على لسان أمينه العام أن الحزب لن يتخلى عن سلاحه طالما أن “مزارع شبعا لا تزال محتلة من قبل العدو الإسرائيلي”.
بعد انتهاء المواجهات العسكرية المباشرة مع إسرائيل، لم يجد حزب الله بديلاً سوى التوجه نحو المشاركة في الحياة السياسية اللبنانية وبالتالي انخرط في المعسكر الموالي للنظام السوري المسيطر على لبنان آنذاك. إلا أن اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري قلل من شعبية الحزب على الصعيد الداخلي.
فما كان من الحزب إلا أن يحاول استعادة بعض من هذه الشعبية عبر افتعال حرب 2006 مع إسرائيل للتأكيد على كونه واجهة الدفاع الأولى ضد إسرائيل. وما لبث أن خسر الحزب ما جناه من تعاطف وتأييد خلال حرب 2006 مع إسرائيل، خلال أيار 2008 حين نزلت عناصره العسكرية واحتلت بيروت بعد قرار مجلس الوزراء حينها برئاسة السنيورة إصدار قرار بوقف الشبكة الهاتفية الخاصة لحزب الله.
لقد أسس انخراط الحزب في الحرب السورية تحت مسمى عقائدي لمرحلة جديدة من التقوقع للحزب على الصعيد الداخلي اللبناني.
فقد بدء الحزب مرحلة الانعزال عن مكونات المجتمع اللبناني عبر التلويح تارةً باستعمال السلاح الذي يملكه داخلياً إذا لزم الأمر. وتارةً عبر إعلان تأييده سياسات إيران وتدخلاتها في المنطقة.
ولكن المتابع لما يحصل في لبنان حالياً يعلم أن ما قبل 17 تشرين أول 2019 (بدء انتفاضة الشارع اللبناني) ليس كما بعده. لقد رأينا العفوية في نزول العديد من جمهور الحزب كما من جميع أطياف الشعب اللبناني، إلى الشارع مطالبين برحيل النظام. وقد رأى الجميع فيما بعد كيف تعامل عناصر حزب الله مع مناصريهم أو سكان مناطق نفوذهم الذين انتفضوا حين أجبروهم على تسجيل فيديوهات يعتذرون فيها عن الإساءة للأمين العام للحزب ولجمهوره.
لقد أعلن الأمين العام للحزب في خطاباته الأخيرة عن دعمه للمتظاهرين وحقوقهم في محاولة لركوب موجة الاحتجاجات ورمي الكرة في ملعب الفريق الخصم سياسياً.
وما يلفت النظر هو أن الظهور المتلفز للأمين العام في المرات الأخيرة كان من دون وجود علم حزب الله في الخلفية، حيث اكتفى بالعلم اللبناني. وقد تحدث وخلص إلى أن المتظاهرين محقين. ولكنه رفض في نفس الوقت الدولة المدنية التي يطالب بها المتظاهرون معلناً أنه ” في لبنان لا يوجد دولة بالأصل”.
إن هذا الإعلان الصريح، ودفع مناصري الحزب وحركة أمل إلى الشارع لمهاجمة المتظاهرين وحرق خيمهم والتعدي على الأملاك العامة والخاصة في محاولةٍ لإلقاء اللوم على المحتجين، ليست سوى محاولةٍ بائسة لمعالجة الأمور بالطريقة التي اعتاد الحزب عليها، ألا وهي ترهيب الناس.
وما يحدث في العراق من انقلاب الشارع بجميع أطيافه ضد التدخل والنفوذ الإيراني في البلاد، يزيد من الضغط على إيران والحزب سوية، حتى أن نصر الله في خطابه الأخير لم يتطرق للموضوع العراقي لا من قريب ولا من بعيد. ومن المعلوم أيضاً أن الحزب قلص من تواجده العسكري في سوريا، كونه لم يعد قادر على دفع تكاليف المقاتلين وتعويضاتهم.
إن إيران تدفع ثمن سياساتها اليوم، من هجوم أرامكو، إلى التدخل العسكري في اليمن وإلى تضارب المصالح في سوريا مع وجود النفوذ الروسي. وما تدفعه إيران من ثمن، يدفعه حزب الله معها. لقد مضى أكثر من أسبوعين على بدء “ثورة البنزين” في إيران، والمحاولات اليائسة للنظام الإيراني لإخفاء ما يجري في البلاد، باءت بالفشل، وما يقوم به النظام الإيراني من بطش في حق شعبه يشبه إلى حدٍ ما، ممارسات حزب الله حالياً في لبنان.
تخويف وترهيب الناس، ونزول جمهور الحزب إلى الشوارع في بيروت بدراجاتهم النارية ومحاولاتهم الاشتباك مع المتظاهرين العزل ليست سوى مناورات يرمي الحزب من خلالها إلى إرسال رسالة للناس توحي بأنه لا زال قادراً على فعل ما يريد حينما يريد.
إسرائيل بدورها، ليست بغائبة عن المشهد. فهي المراقب بحذر وصمت وتقوم بين الحين والآخر بتنفيذ ضربات نوعية في سوريا ضد أهداف تابعة للقوى العسكرية الإيرانية ولحزب الله أيضاً.
لربما أكبر خطأ ارتكبه الحزب هو الانخراط في الكثير من الجبهات خارج لبنان بين سوريا واليمن والعراق. والتراجع في المردود الاقتصادي للحزب والدعم من إيران لم يكن في حسبانه أبداً.
وما يحاول الحزب حالياً فعله في لبنان هو أن يحل المشكلة على الطريقة التي اعتادها، بالقوة. فالهتافات التي يصيح بها عناصره في الشارع، ليست سوى محاولة لشد العصب الطائفي للشيعة المناصرين.
وفي المقابل، ما نجح به المتظاهرون حتى الآن كان أنهم حافظوا على سلمية تحركهم ورفعوا الأعلام اللبنانية فقط مقابل الأعلام الحزبية التي يرفعها مناصرو حزب الله وحركة أمل.
كل ما سبق هي مؤشرات على بدء إفلاس الحزب سياسياً والابتعاد عن الشارع ومشاكل البلد الحقيقة التي يكرسها وجود الطبقة السياسية حالياً، بدل من التقرب من الشارع وركوب موجة الاحتجاجات. والتاريخ السياسي في لبنان يعلمنا أنه ليس من حزب أو قوةٍ أو طائفة استطاعت السيطرة والتفوق لوقت طويل.
فتجربة حزب القوات اللبنانية خلال الحرب اللبنانية كانت خير دليل على أن امتلاك السلاح والقوة العسكرية ليسا بكافيين لإدامة التفوق. فالوضع السياسي في لبنان مختلف، وللدول الكبرى مصلحة في وجود توازن سياسي، إذ يرون لبنان ككفة الميزان.
إن حزب الله هو منظومة بشكل دويلة. وأمر تفكيكه صعبٌ جداً. ولكن ما يحصل حالياً ليس سوى مؤشر على بداية تقوقع الحزب طائفياً. فهل هي حقاً بداية نهاية حزب الله وإفلاسه؟ وما هي التكاليف التي سيدفعها الحزب والشعب اللبناني سويةً؟