الحمود يكتب: خطة تحديث القطاع العام

3 أغسطس 2022
الحمود يكتب: خطة تحديث القطاع العام

 مازن الحمود

كنت قد عبرت عن مِحورية الإصلاح الإداري لرفعة الأردن ومواطنيها خلال اجتماعات سعدت بدعوتي اليها لمناقشة الإصلاحات المرجوة في الأردن قبل الشروع بهم، ومن خلال عدد من المقالات سبق نشرها، عبرت خلالها بأن هنالك نماذج في العالم لدول غنية في ثرواتها الطبيعية والتي تتمتع بأنظمة الحكومات البرلمانية او الحزبية التي نصبو اليها في الأردن، الا انها دول تعاني اقتصاديا، ومن الفساد، ولديهم نسب كبيرة من البطالة والفقر، وان سبب فشل هذه الدول الغنية حدا في ثرواتها هو ضعف وترهل الإدارة فيها.

وذكرت أيضا أن من أهم أسباب نجاح الدول المتقدمة هو قيام هذه الدول ببناء انظمتهم السياسية على قواعد إدارية صلبة وليس العكس، وتكون هذه الإدارات منفصلة عن سيطرة الحكومة حتى لا تستخدمها لرعاية مصالحها كما حصل في نماذج عديدة معروفة.

 

ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال، هنالك حكومة جلالة الملكة وهنالك ديوان الخدمة المدنية الملكية، وبمعنى اخر، الدولة تقدم ادارتها للحكومة المنتخبة لتمكينها من تنفيذ برامجها التي انتخبت من اجلها.

 

وفي الولايات المتحدة الامريكية، تحتوي الإدارة الفدرالية على مليوني موظف، ولكن يسمح لرئيس الجمهورية المنتخب حرية تسمية موظفين لألفي وظيفة محددة بعد الخضوع لموافقة مجلس الشيوخ لمعظم هذه الوظائف.

النموذجان من نماذج عديدة في دول متقدمة تجسدان أهمية استقلال الإدارة عن الحكومة واهمية صيانة نزاهتها. وحتى في الشركات الناجحة نجد ان دوائر الموارد البشرية تخضع لمجالس الإدارة او المالك مباشرة وليس للإدارة التنفيذية. فأن اعتبار تسليم الولاية العامة الى حزب منتخب حاكم بحد ذاته سينقل البلاد من وضع اقتصادي واجتماعي يواجه تحديات صعبة الى وضع أفضل بعيدا عن أي واقع معروف، الا إذا أصبحنا نحن النموذج الأول لذلك.

أن اعراض الترهل والضعف الإداري معروفة منذ فترة، الا انها تجسدت من خلال الاحداث التي شهدناها خلال الأعوام الماضية التي أدت الى وفاة عدد كبير من المواطنين في حادثة البحر الميت وفي مستشفى السلط وحادثة ميناء العقبة، وهي احداث كان من الممكن تفاديها لولا أخطاء إدارية، مما استوجب عملية اصلاح اداري شامل سريع.

وفي هذا الصدد، لا اعتقد ان أي إدارة في أي مكان يمكن أن تقوم بعملية اصلاح لذاتها، وإذا قامت بذلك سوف تكون المخرجات تتمحور حول النهج ذاته. فمبدأ الثواب والعقاب، على سبيل المثال، وهي القاعدة الأساسية للإدارة الناجحة، اصلا موجود في أنظمة الإدارة الأردنية، ولكن لم يتم تطبيقه بالتساوي على الجميع بسبب الانحياز والمحاباة، ولا اعتقد ان يتاح له التطبيق في ظل حكومات حزبية منتخبة التي سيكون جل أولوياتها المحافظة على قواعدها الانتخابية كما تعمل الاحزاب في أي بلد. وهذا أيضا من الاسباب الموجبة لاستقلال الإدارة عن الحكومة.

وهنالك مسألة أخرى. تتحدث خطة تحديث القطاع العام عن انشاء وإلغاء مؤسسات ووزارات، ومنها مؤسسة بديلة عن ديوان الخدمة المدنية التي تعول الخطة على انها ستكون كفيلة بتحسين الإدارة الأردنية وخدماتها.

فالسؤال هو في ظل مخرجات لجنة تحديث المنظومة السياسية والعزم على حكومات حزبية منتخبة على اسس برامجية، هنا يبرز السؤال المهم وهو ماذا سنفعل في حال انتخاب حكومة حزبية كان من برامجها الانتخابية إعادة تكوين وزارة للعمل، أو إعادة مهمة المناهج الى وزارة التربية والتعليم، او غيرها من القرارات التي تعكس ما جاء في خطة التحديث الحالية؟ ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال، قرر الحزب الحاكم الحالي ضم وزارة التنمية الدولية الى وزارة الخارجية، كما قررت الحكومة السابقة من نفس الحزب ضم المؤسسة المعنية بالتجارة والاستثمار أيضا الى وزارة الخارجية (خطوتين عمليتين من وجهة نظري حيث أصبح الاقتصاد جزئ لا يتجزأ من العمل الدبلوماسي)، ولكن لا يوجد أي ضمان بأن لا يقوم حزب اخر يصل الى السلطة او حتى حكومة من نفس الحزب عكس هاذين القرارين. فما الضمان أن لا يقوم حزب يتمتع بأغلبية في البرلمان الاردني، وهذا غير وارد في المرحلة الأولى، أن لا يعكس مصفوفة القرارات الحالية. فأن الضمان الوحيد في مثل هذه الحالة هو عدم صدور ارادة الملكية بتعديل قانون يعكس ما جاء في هذه الخطة، مما سيخلق أجواء سلبية غير مرجوه بين القصر والحكومة المنتخبة.

وهنا، ماذا سنقول لحكومة منتخبة كان من بين برامجها الانتخابية الغاء وزارة الاستثمار والتجارة مثلا وضم مهامهما الى وزارة الخارجية بعد ان أصبح هذين الشأنين من مهام عدد كبير من الوزارات المعنية في السياسة الخارجية في العالم. وبمعنى اخر، ان الخطة التي أتت بها الحكومة لتحديث المنظومة الإدارية تمثل رؤية هذه الحكومة لمتطلبات الوضع الحالي، وقد تأتي حكومة مُعَينة او منتخبة مستقبلا قد تنظر الى الأمور بشكل اخر، أو من منظور اخر، مما يستدعي اجراء تعديلات أو تغييرات حسب رؤيتها.

ولكن عندما يكون رأس الدولة وجهازها الإداري (والعسكري والأمني) هم الثابت الوحيد، فان ذلك من شانه ان يكفل الاستقرار وديمومة التحديث مما ينعكس على البلاد. ولهذا السبب، فأن اعادة تمكين الإدارة لتصبح إدارة مهنية كما كانت، وثم المحافظة على نزاهتها وهيبتها، هما الضمان الوحيد لمستقبل مستقر وباهر، ولن يحدث ذلك الا بعد حماية الإدارة العامة من أي تدخلات تؤثر على أدائها وذلك من خلال منحها الاستقلالية عن الحكومة كما هو الحال في الدول المتقدمة.

وهنا لا بد من ذكر الخدمات الطبية الملكية كمثل يحتذى به خاصة وإنها تحمل اعلى علامة تميز في البلاد الا وهي الاجازة الملكية كضمان لأعلى درجات النزاهة والحرفية والجودة والتي دلت خدماتها عبر السنوات للمواطنين الأردنيين ومرضى في دول عديدة، وقد تكون هي احدى النماذج الامثل لجهزنا الإداري المدني. ان الحَوكمة المدنية لإدارة مستقلة تقدم خدماتها للحكومة (منتخبة او تكنوقراط) مسألة غير معقدة وممكنة إذا كان هنالك عزيمة حقيقة للانتقال الى مستقبل أفضل. بذلت الحكومة جهد كبير للخروج بخطة للتحديث الإداري في الأردن، كما اجتهدت في بنودها المختلفة، ولا يوجد شك أن كثير من المخرجات هامه وستساعدها في عملها وتحقيق الأهداف المرجوة، ولكن كما تم ذكره سابقا، أي تطوير اداري يجب أن يأتي من خارج المربع اذا كانت نقلة نوعية وجوهري لتفادي مثل النكبات التي وقعت بنا مؤخرا.