بقلم: أ. د. خليل الرفوع
ديوان حقائب الظل للشاعر الناقد د. محمود الشلبي الصادر هذا العام ٢٠٢٠م عن دار اليازوري بعمّان ، هو آخر دواوينه الشعرية، ولقد نشر له من قبلُ مجموعة من الدواوين كان أولها عسقلان في الذاكرة سنة ١٩٧٦م، وفي شعره يصدر الشلبي عن رؤية كونية عميقة في الذات والأشياء من حوله، وفي كل ديوان يجد الناقد إيغالا في تلك الرؤى والتأملات، حتى لتغدو القصيدة ترنيمة صوفية تحفر في الروح علامات الشعرية ووشوم الوفاء للقصيدة وحقول الطبيعة وبيارات اللغة، في جميع دواوينه غنّى الشاعر للأمكنة الأردنية والفلسطينية، وكانت على امتداد قصائده عشقا ووجدا وتراتيل تنداح كلها في فضاءات الزمن وطنًا واحدًا ، وفي ظلال هذا الوطن الواحد غني الشاعر للشهداء وأمه الحقيقية وعشقه القديم ، والغور بشمسه وبياراته وفتيته، وأصدقائه أحياءً وأمواتًا بالوفاء والرثاء، واللغة بحروفها وبهائها، لقد كانت تجربة محمود الشلبي حقولا من الأناشيد والآمال والأوجاع والذكريات وظلال الندى والطيور وخفقة الحنين ووجيب الضلوع والطفولة .
وفي ديوانه حقائب الظل، يفيض شعريةً بلغة استعارية وصور متجددة وإيقاعات هادئة، فاللفظة عنده صورة تتحرك، والصورة قصيدة متكاملة، فتتابع الكلمات هو تتابع للصور أو قل للقصائد، وكأن الديوان قصيدة واحدة أنضجتها مواقد الكلمات فوق أجنحة الطيور وفي عين الشمس وظلال القمر وحدائق اللغة، ولا نبعد إن قلنا : إن الشاعر يتنفس شعرًا رُخاءً حيث أصاب ، وإن الشعر ينسكب جداول ريانة بالحياة.
هل للظل حقائب ؟! إن أردتَها شعريةً إيحائية فالجواب نعم ، هي حقائب الشاعر وقد طال سفره وبَعُدَت عليه الشُّقةُ عن منزله الأول الذي لا ظل له ثَمّةَ، بل كلّه ينبعث فيه هيئةً وفكرًا وذكرى ، لقد امتدت المسافات وامتدت معها الظلال وكان تحت وهج الشمس أو عتمة القمر ولا فرق ما دام الشاعر في الرحيل المر يصطلي غربته وحده، وللظل حقائب مملوءةٌ بالطفولة ووجه أمه ” شيخة العزام”المزين بالوشم الأخضر وقد كانت إبرتها قلمًا يكتب بالخيط، وفي الحقائب أيضًا خضرةُ الأغوار وأيام الحصاد ونضارة الحياة وما أضيف إليها من وجع وقلق وأحلام أثناء الطواف والضرب في الأرض، إن حقائب الظل هي الآخر الشاعر بخباياه وأسراره، وكلما فتح واحدة منها تصحو فيه الذكريات لتورقَ قصيدة بحجم أرق التجربة، يقول :
” أمشي وحيدًا…..
لم أجد أحدًا سوى ظلي
يدلّ على ملامحيَ التي بقيتْ إليّ
وقدمتني للحياة كما أنا”، ( ص١٩) .
وعلى امتداد أربع وثمانين قصيدة يجد القارئ كل عنوان مفتاحًا لحقيبة يطلُّ منها على ذكريات وأصوات وأشياء تحتاج إلى نظرٍ وتأمل بإحساس شعري صوفي فلسفي ؛ لأن كل قصيدة ومضة فلسفية برؤية شعرية، وكل قصيدة حقيبة، وفي كل حقيبة أجمل ما حُفِرَ في الذاكرة ورُسِمَ على على جداريات القلب ، فهي ليست أطلالا بلاقعَ مقفرةً بل مراجعُ وشومٍ في نواشر الكلمات تتجدد كلما وقف على منازلها الشاعر بشيء من القلق .
هناك رسيسٌ فلسفي وجداني يشد القصائد كلها إلى رؤية تقوم على النظر والتدبر ؛ لأن محفزات التأمل تستفز الشاعر ليقول شعرا تحركه استعاراتٌ تؤنسنُ الأشياء كلها ، وكأن القارئ يعيش في طبيعةٍ بشرية خالصة وكونٍ إنساني محضٍ ومعانٍ مطلقة في أصلها، تتحول في جمله الاستعارية إلى كائنات حية بكل حواسها، ” فالشعر معلق في الفضاء الطموح، والظل يسابقه في عبور المدى، والسحابة مذعورةً من طراد المسافات، حتى يرى في الخيال الطفولي ما لا يُرى، يستقل عن الوهم ويدنو من الحُلْم، يخضر فيه الجنون ، وتمشي العُصارةُ مخمورةً في القطوف ، والبرق يخون الديمة في السماء ، وهذه القصيدة أجّلتني ؛ كي أرى لغة الربيع على بساط الآَرض ، والسحابة توسلت بدموعها للسماء وبكتْ على كتف التلال ، لمثلك تشرق الكلماتُ من شَفةِ القصيدة ، يكمل الإيقاع دورتَه الرشيقة ” ، هكذا تمتد القصائد بلغة استعارية مدهشة بعيدة عن نمطية التركيب المعجمي الساذج الذي يغلف كثيرا من القصائد المعاصرة التي تستهدف صحة التفعيلة على حساب جدة الصورة وجمالية اللغة وسلامة المعنى.
أعود إلى ما أشرت إليه من قبلُ وهو صدور الشاعر عن تأملاته الفلسفية حتى لتصبح القصيدة : فكرة موسيقية استعارية بلغة غرائبية تجعل المتلقي يقف مشاركًا بالوجع والتأمل ، فالقصيدة ليست كلاما مصفوفًا يسمع ثم يلقى بها على أقرب قارعة، وليست الاستعارات فيها طلاء للتزيين حتى إذا سمعه أو رآه لم يجده شيئا، ولو كان الشعر كذلك لما كنا إلى يومنا هذا نقرأُ شعرا قيل قبل مئات السنين قراءة وجدانيةً تأمليةً نقدية، ولمّا ننتهِ من الوقوف عليه بعدُ وما مسّنا إلا قليلُه، ومن وقفات الشاعر التأملية التي بُثَّتّ في مفاصل القصائد :” يؤرقني كلُّ ما يستبدُّ برأسي من الفكْر، أفكّرُ في جرَس الوقت هل دقَّ، المعاني أمامي كثيرٌ من الذكريات ورائي…. وبي حاجةٌ للبكاء، قرأت كثيرًا عن الحب في كتُب العشقِ، أقرأُ الكلماتِ في كف الصباح، أفكّرُ بالشعر أكتبُ ما شاء لا ما أشاء فعند التقاء التأمل بالشيء ينبتُ عشب التجلي وينطق صمت الخفاءْ، وكأنني متوحد في الحُلْم، الراحلون كأنهم لغة الغياب، حدّقتُ في الزمن الفقيد…، أكتب سطرًا من الشعر أوله ومضةٌ من صبابة عشق وآخره رعشة من حنين، أحدّق في الماء أتبع عزْف الرياح أنوش الفضاء بسبابتي، أفكر بالشيء أكثر مما يجب…، علاجُ العليل برشفة شعر مقطرة من رحيق القصيدة تخضرُّ فيها المعاناةُ، غارقٌ في التأمل أمضي إلى حالةٍ شابهتْ بعضها”.
وبعدُ،
فإن ديوان حقائب الظل استكمال فني لتجربة أنتجت حالة شعرية تستحق التأمل والدرس النقدي ففيها يتجلّى الوطن باسطًا جناحيه فوق زرقة السماء وتحت خضرة الأرض مغروسا في القصيدة والعشق والكلمات، وفي ظل الديوان سيجد القارئ حقائبَ تغري القارئ غير العابر بالوقوف لاستشعار موجبات القراءة ومغريات المتعة، وسيجد كذلك شاعرا يسير على شرفات الغيم يرى الأشياء كما يريدها هو، فيرسم صورًا للحياة وللموت بعد أن تَغَيَّرَ فينا كل شيء .
*أستاذ الأدب العربي بجامعة مؤتة