وصفي التل… الرجل الذي لا يموت والاسم الذي يعلو على الزمن

37 ثانية ago
وصفي التل… الرجل الذي لا يموت والاسم الذي يعلو على الزمن

د. هاني العدوان

في ذكرى استشهاد وصفي التل يعود السؤال الذي لم يغادر وجدان الأردنيين يوما
لماذا لم يستطع الزمن أن يطوي هذا الرجل، ولماذا كلما اشتد على الناس ضيقٌ أو شعروا أن الطريق نحو العدالة قد غامت قالوا أين أنت يا وصفي
الأمر ليس حنيناً إلى ماض جميل بل هو عطش لرمز نادر اجتمعت فيه صفات تكاد تكون أسطورية فجعلته جزءاً من التركيبة النفسية للأردنيين، لا رئيس وزراء فحسب ولا ذكرى وطنية تُستعاد في المناسبات بل رمزاً يتوحد حوله المختلفون ويحتكم إليه الغاضبون ويأنسون به كأنّه ما زال بيننا

وصفي التل كان حالة استثنائية بدأت من تربيته الريفية الأولى حيث تشكلت شخصيته على الصدق والقسوة على الذات والالتزام الصارم بالعمل والإيمان المطلق بأن الوطن ليس مكاناً نعيش فيه بل مكان يعيش فينا
لم يتعامل مع منصب رئيس الوزراء بوصفه امتيازاً وإنما كواجب ثقيل يقتضي أن يستيقظ قبل الناس جميعاً وأن يعمل أكثر منهم جميعاً وأن يتحمل ما لا يستطيعون تحمله
تميز وصفي بقدرة خارقة على تحويل الفكرة إلى فعل والقول إلى مشروع والوعد إلى نتيجة، كان يرى في الزراعة عمود الأمن الوطني وفي الفلاح مقاتلا صامتاً يُقاتل بعرقه كما يُقاتل الجندي بسلاحه، ولذلك تحولت سنواته في الوزارة ودوائر الزراعة والمشاريع الريفية إلى نقلة تاريخية موثقة رفعت الإنتاج ورسخت مفهوم الاكتفاء وربطت الأردني بأرضه ربطا مصيرياً

أما في الوطنية كان وصفي مدرسة قائمة بذاتها، أحب الأردن حتى العظم وأحب فلسطين بقدر ما أحب الأردن ورأى فيهما ساحة نضال واحدة لا تُفصل ولا تُفكك
لم يساوم على فلسطين ولم يساوم على الأردن ولذلك أحبته الجماهير الفلسطينية كما أحبه الأردنيون رغم اختلاف المواقف والظروف
كان صلبا في الميدان حازما في القرار لا يرضى أن يتجاوز أحد على سيادة الدولة ولا يسمح أن تُستقل عاصمتها أو تُختطف عافيتها أو تُستباح كرامة مواطنيها
وفي الإدارة صنع وصفي معجزة لا تزال مضربا للمثل دخل مؤسسات مترهلة اداريا وخرج منها وهي تعمل بدقة الساعات، كان يؤمن أن الفساد خيانة وأن المسؤول الذي لا يخدم الناس عبء عليهم وأن الموظف الذي يحتقر المواطن لا يستحق الكرسي الذي يجلس عليه ولذلك لم يكن يخشى تغيير أي مسؤول مهما كان اسمه لأنه يرى أن الكرسي لا يعطي قيمة لصاحبه بل إن صاحبه هو الذي يمنحه قيمة

أما في الإصلاح فقد كان سيد الإصلاح، ليس بالشعارات وإنما ممارسة، كل خطوة اتخذها كانت مبنية على رؤية واضحة، دولة قوية لا يتغول عليها أحد وقانون واحد لا يُستثنى منه أحد ومؤسسة نظيفة لا يُديرها إلا الأكفاء
وحين يتحدث الناس اليوم عن الإصلاح الحقيقي فإنهم يستحضرون وصفي لا لأن غيره لم يُصلح بل لأن وصفي جسد النموذج الأعلى للإصلاح، إصلاح الإرادة قبل القوانين والضمير قبل اللوائح والعمل قبل الخطاب

وصفي التل كان رجلا ذا قلب كبير يعرف القسوة على نفسه لكنه يعرف الرحمة بالناس
كان قريبا من الفقراء يعرف أسماءهم يزور بيوتهم يقف في طوابيرهم ويعتبرهم معيار العدالة لا فئة قاصرة في المجتمع وفي ملفات المواطنين كان يرى كرامتهم من كرامته

كان يعتبر الفساد طعنة في قلب الدولة ولذلك واجهه بشراسة ووقف بوجه الفاسدين مهما علت أسماؤهم أو تضخمت نفوذهم، ومن هنا اكتسب احترام الناس وخوف الفاسدين في الوقت نفسه لأنه لم يجامل أحدا ولم يساوم على حساب الوطن

هذا المزيج العجيب من القوة والرحمة، الحزم والإنسانية، الجرأة والضمير، جعل وصفي التل أيقونة أردنية بكل ما تعنيه الكلمة، ونموذجا لا يستطيع أحد أن يكرره
صار جزءا من الفسيفساء الأردنية التي تتناقلها الأجيال، في المجالس تسرد حكايات بطولاته كيف كان للدولة الاردنية ولقيادته ولشعبه في آن معا، وكيف وقف موقف الشجعان في ساعات الحسم وكيف ابتسم وهو يسير إلى قدره وكأنه يعرف أن الموت لا يقتل العظماء بل يخلدهم

ولأن العظماء لا يموتون بقي وصفي حياً في الذاكرة، اسمه حاضر في كل أزمة وصورته في كل موقف وظله في كل نقاش يتعلق بالوطن
لم يستطع أحد أن يحتل مكانه ولم يستطع الزمن أن يفقده بريقه لأن الأردنيين رأوا فيه تجسيداً لما يتمنونه، مسؤولاً صادقا وشجاعاً ونظيفاً وعادلاً وإنسانياً وحاملاً لهم الوطن لا لمكاسبه
ولذلك كلما ضاقت القوانين أو أثقل الناس الغلاء أو شعروا أن الدولة تبتعد عنهم، يظهر سؤال واحد أين أنت يا وصفي
وكأنهم يقولون أين الرجل الذي لم يكن يترك مواطناً يشعر أنه وحده، أين المسؤول الذي كان يضع الوطن على كتفيه، لا على لسانه، أين النموذج الذي صار ميزاناً يُقاس به كل مسؤول

وصفي التل كان رؤية وطن كان تركيبة نادرة صنعتها الصحراء والريف والمعركة وصقلتها التجربة ورفعتها المبادئ إلى مقام الرجال الذين يكتبون أسماءهم في سجل الخلود
رحل وصفي جسدا لكنه بقي روحاً تُلهم وصوتاً يُذكر واسماً يتصدر وتاريخاً لا يمكن تجاوزه وقريناً لكل حديث عن الشجاعة والنزاهة والإصلاح

لقد كان ابناً للأردن كله ماضيه وحاضره ومستقبله

هذا هو وصفي التل وجدان وطن وذكرى لا تذبل وصوتاً حياً في ضمير شعب عرف أن بعض الرجال لا يموتون لأن الوطن يحتاجهم في كل يوم
رحم الله الشهيد الخالد رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته