كيف نبني الأردن بعد قرن من إنشائه: من التشخيص إلى التنفيذ

دقيقة واحدة ago
كيف نبني الأردن بعد قرن من إنشائه: من التشخيص إلى التنفيذ

م. سعيد بهاء المصري
(الحلقة السابعة والأخيرة)

بعد أن استعرضنا في الحلقات السبع الماضية أبرز التحديات التي تواجه الأردن في اقتصاده ومجتمعه وإدارته، تأتي هذه الحلقة لتربط ما بين ذلك التشخيص وما ينبغي فعله على أرض الواقع، في إطار خطة تنفيذية تستند إلى رؤية التحديث الاقتصادي 2023–2033، مع إدراك أن أي خطة لا بد أن تقوم على افتراضات واضحة، وتحتوي على بدائل مرنة تمكّنها من الاستمرار حتى في حال تغير الظروف.

الاستثمار والطاقة: يشكّلان نقطة الانطلاق لأي تحول اقتصادي جاد، فالأردن يمتلك فرصًا واعدة في مشاريع الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، إلى جانب تعزيز الربط الكهربائي الإقليمي مع دول الجوار. هذا لا يقتصر على تلبية احتياجات السوق المحلي، بل يفتح آفاقًا للتصدير، مما يخلق مصادر دخل مستدامة. وفي موازاة ذلك، فإن الاستمرار في تطوير البدائل المحلية لإنتاج الطاقة أمر بالغ الأهمية، سواء عبر مشاريع الغاز المسال، أو استخدام الجيل الرابع من المفاعلات النووية لإنتاج الكهرباء بكفاءة وأمان، أو استغلال احتياطيات الصخر الزيتي لتوليد الطاقة، فضلًا عن إحداث نقلة نوعية في صناعة تكرير المشتقات النفطية لرفع القيمة المضافة وتقليل الاعتماد على الاستيراد. وإذا واجهت هذه المشاريع عوائق، يمكن اللجوء إلى تصدير الطاقة على شكل هيدروجين مضغوط أو أمونيا خضراء، بما يحافظ على قيمة الاستثمار ويؤمّن أسواقًا بديلة.

النقل والبنية التحتية: هي الشرايين التي تضخ الدم في جسد الاقتصاد. تطوير شبكة متكاملة تشمل الباص السريع، القطار الوطني، والربط مع الموانئ والمطارات، سيحوّل الأردن إلى مركز لوجستي إقليمي. هذا التطوير يجب أن يترافق مع تحسين البنية التحتية للمناطق الصناعية والمناطق الحرة والمواقع السياحية، بما يضمن حركة سلسة للبضائع والأفراد. وفي حال تعثر التمويل الخارجي، يمكن تبني استراتيجية تنفيذ مرحلية تبدأ بالمشاريع ذات الأولوية القصوى، مع استغلال الصناديق السيادية المحلية كممول رئيسي، وربط التمويل بتحقيق مؤشرات أداء واضحة.

السياحة: تعد اليوم من أهم محركات النمو الاقتصادي في الأردن، فهي صناعة تصديرية بامتياز من خلال عوائد السياحة الوافدة التي نجحت، إلى حد بعيد، في وضع المملكة على خارطة السياحة العالمية. هذه المكانة لم تأتِ من فراغ، بل بفضل تنوع المنتج السياحي الذي يجمع بين السياحة التراثية الغنية بالمواقع التاريخية الفريدة، والسياحة العلاجية القائمة على استغلال الموارد الطبيعية من مياه معدنية وطين طبي، إضافة إلى السياحة الترفيهية التي تستقطب الزوار من مختلف الأعمار والفئات، فضلًا عن السياحة الدينية التي يحظى الأردن فيها بميزة تنافسية مهمة، إذ تمتاز بالاستقرار الأمني والاجتماعي النسبي مقارنة بدول المنطقة، مما يجعلها أقل تأثرًا بالظروف الجيوسياسية المتقلبة. ولكي يواصل الأردن تعزيز مكانته على الخريطة السياحية العالمية، لا بد من الاهتمام برفع السعة الفندقية وتحسين جودة الإقامة، وتطوير وسائل النقل السياحي المريحة والحديثة التي تربط المواقع السياحية ببعضها، بما يتيح للسائح التنقل بسهولة وبتجربة مريحة. هذه العوامل، مجتمعة، تؤثر مباشرة على زيادة عدد الليالي السياحية التي يقضيها السائح في الأردن، وهو ما ينعكس على حجم الإنفاق السياحي ويضاعف العوائد الاقتصادية. كما أن الترويج المنظم والمستمر للأردن في الأسواق العالمية، خصوصًا في الدول ذات الاقتصادات المتقدمة، يفتح المجال أمام استقطاب شرائح جديدة من السياح ذوي القدرة الإنفاقية العالية، ويسهم في ترسيخ صورة الأردن كوجهة سياحية متنوعة وآمنة على المدى الطويل.

الزراعة والأمن الغذائي: هما ضمانة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، ولا يقتصر تطويرهما على إدخال التكنولوجيا الزراعية الحديثة وأنظمة الري الموفّرة فحسب، بل يتطلب إعادة هيكلة مؤسسات القطاع الخاص الزراعي، مثل اتحاد المزارعين والاتحادات النوعية المحصولية والجمعيات التعاونية، لتكون أكثر استجابة لمتطلبات السوق. هذا التنظيم يضمن ضبط الإنتاج الزراعي المحلي وفق احتياجات الاستهلاك الداخلي والتصدير، وكذلك تزويد الصناعات الغذائية بالمواد الأولية ذات الجودة. وإلى جانب ذلك، فإن استحداث «غرفة زراعة الأردن» كإطار مؤسسي معني بترويج وتسويق المنتج الزراعي النهائي داخليًا وخارجيًا، سيعزز قدرة المنتج الأردني على المنافسة في الأسواق العالمية.

الصناعات الإبداعية والتكنولوجيا: هي البوابة التي تفتح الأردن على أسواق المستقبل. دعم الشركات الناشئة في مجالات البرمجيات والخدمات الرقمية، وتعزيز التحول الرقمي الحكومي، وتوفير حاضنات أعمال ومسرّعات متخصصة، سيخلق بيئة خصبة للابتكار. وحتى إذا تراجعت الاستثمارات الأجنبية، يمكن للأردن الاعتماد على تصدير الخدمات الرقمية عن بُعد، بما في ذلك خدمات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، مستفيدًا من موقعه الجغرافي وموارده البشرية المؤهلة.

التعليم: بجميع مراحله من الأساسي إلى العالي والمهني، هو الركيزة التي يبنى عليها أي نهضة. مواءمة المناهج مع متطلبات الثورة الصناعية الرابعة والخامسة، وتطوير التعليم المهني والتقني، وتوسيع نطاق التدريب العملي بالتعاون مع القطاع الخاص، كلها خطوات ضرورية. ويمكن للحكومة، في حال ضعف التفاعل من جانب الشركات، أن تنشئ مراكز تدريب وطنية بالشراكة مع الجامعات والنقابات لتخريج قوى عاملة تلبي احتياجات السوق المحلي والإقليمي.

الخدمات المالية: لم تعد تقتصر على البنوك التقليدية وأسواق المال، بل أصبحت ميدانًا للتطور الرقمي السريع. تطوير الخدمات المصرفية الرقمية وتوسيع قاعدة المستثمرين في أسواق المال أمران أساسيان، لكن التوجه الأحدث هو الولوج إلى عالم العملات الرقمية بمختلف أنواعها، سواء العملات المشفرة أو العملات المستقرة المرتبطة بأصول مضمونة. هذه العملات بدأت تستخدم في الدول المتقدمة كأدوات تمويل لمشاريع البنية التحتية والخدمات الكبرى، ويمكن للأردن دراسة هذا المجال بجدية كخيار استراتيجي لتمويل المشاريع الاستثمارية، مع وضع إطار تشريعي يضمن الشفافية ويحد من المخاطر.

الإصلاح الإداري والحكامة الرشيدة: هما الضمانة لاستدامة أي إنجاز. إعادة هيكلة القطاع العام، واعتماد نظم تقييم أداء إلزامية، وتوسيع تطبيق اللامركزية، خطوات أساسية لرفع الكفاءة ومكافحة البيروقراطية. وحتى في مواجهة المقاومة للتغيير، يمكن البدء بمشاريع تجريبية في وزارات محددة، ثم تعميم التجارب الناجحة تدريجيًا.

إن هذه الخطة، الممتدة من المدى القصير إلى الطويل، تحتاج إلى مؤسسات مرنة قادرة على تعديل المسار سريعًا دون فقدان البوصلة، فالمستقبل لن ينتظر المترددين، والأردن يمتلك من المقومات والموارد البشرية ما يؤهله للانتقال بثقة من مرحلة التشخيص إلى مرحلة التنفيذ.