مرثية الكيس الأسود …كيف نقرأ الأردن ؟

34 ثانية ago
مرثية الكيس الأسود …كيف نقرأ الأردن ؟

بقلم الكاتب عبدالهادي راجي المجالي.
قبل أسبوعين ، كنت في (البزنس بارك) …ذهبت لرؤية صديق جاء من السفر ، ودعاني للغداء ، اعتذرت وطلبت أن نحتسي القهوة فقط ، وقد جلسنا في مكان رأيت منه لوحة محطة المملكة .

المهم غادرت (البزنس بارك) واتجهت لمسقط رأسي الربة ، كي أشارك في تشييع جثمان سيدة من أقربائي …وهناك أمضيت نهاري والليل ، نستقبل الناس الذين جاءوا للعزاء .

في الصباح وحين عدت لعمان ، احترت في الأردن واحترت بين صورتين …الصورة الأولى لشابة في مقتبل العمر ، طلبت قهوة من نوع ( لاتيه) ..كانت ترتدي حذاء فاخرا من ماركة ( لويس فيتون) ، وجلست بجانبنا – حين التقينا أنا وصديقي في المقهى الموجود في (البزنس بارك ) – كانت مرتبكة قليلا ، وتنتظر أحدا ..صديقي يعمل في دبي ويعرف في (الماركات) العالمية ، وبدأ يخبرني عن ساعتها ..وعن عطر (الشانيل) …باختصار كل من جاء لهذا المقهى ، من ذات الشاكلة والطبقة .

الصورة الثانية التي أوجعتني كثيرا ، هي العزاء الذي حضرته في قريتي ، فبعد الانتهاء من تناولنا المناسف ، جاء رجل خمسيني يحمل كيسا أسود ، وأخذ ما تبقى من طعام ، ووضعه في الكيس …كان يقلب بقايا قطع اللحم ، ولم يقم برمي شيء منها وضع كل شيء داخل الكيس ، ثم مضى إلى سبيله ، كان يسير على حواف الوجع والفقر والتعب .

الأردن هو الصراع بين هاتين الطبقتين ، الطبقة التي تريد أن تحافظ على مستوى اللباس ومنسوب الماركات ، وبين الطبقة التي تسير على حواف الألم والجوع والتعب .

والأردن هو الصراع بين قريتي (الربة) التي يحتضن ترابها جثمان رئيس وزراء شهيد وقائد جيش قتل من اليهود ما قتل ، وبين مكان اسمه (البزنس بارك) يضم محطة ، قيل أنها بنيت كي تنتج إعلاما عصريا ولتوصل صوت الفقراء في الوطن …هل يا ترى نجحت في إيصال صوت الرجل الذي كان يحمل (الكيس الأسود)؟

وسؤالي المعذب ببراءة وطنيتي المتعبة ..إذا واجهنا مستقبلا محنة ، فمن الذي سيقاتل دفاعا عن الوطن ، هل ستقاتل ماركات (الشانيل) ، (ولويس فيتون) …واجهات الحجر في (البزنس بارك) ، والسيدة القلقة التي تناولت قهوة (اللاتيه ) على عجل أم أن الذين تعتقوا في الصبر وتخرجوا من الجندية ومعسكرات الرضى في قريتي (الربة) هم الذين سيقاتلون .

من سيقاتل ؟ الذين يدفعون (الوف ) الدينانير في ذاك المكان للإشتراك في (الجم) الذي بني خصيصا لتلك الطبقة ، أم ذاك الملاح الذي يحمل رتبة وكيل ، ويعمل على الشحن في طائرة(سي ون 30) والذي جاء من قرية نائية ، وأفرغ الحمولة فوق (غ زة) ، ورفع كفه بالدعاء لهم كي يبقوا صامدين وصابرين .

من الذي سيقاتل دفاعا عن البلد ؟ …رواد المطاعم الفاخرة ، أم رواد البنوك الذين يطلبون تأجيل الأقساط من أجل زواج الابن الأكبر ؟ ..

لقد أزعجتني تلك الصور ، وللعلم حين انتهى الرجل الذي حمل الكيس الأسود من مهمته ، غادر المكان ..ومشيت خلفه ، يبدو أن حرارة الجميد ، أذابت الكيس …ويبدو أن الأولاد ينتظرون في المنزل ، حاولت جاهدا مساعدته عبر إحضار كيس اخر ، ولكن نصف الحمولة سقط على الأرض …عدت في النهاية لمكان العزاء ، حاولت أن استصلح منسفا كاملا له ، ظل صامتا متحسرا تأخذه عزة النفس تارة ، وتغلبه الحاجة تارة أكثر ، في النهاية استصلحنا ما يمكن استصلاحه ومضى .

لحظة مغادرته كنت موزعا بين مذاق القهوة التي شربتها في البزنس بارك ، وبين مذاق الفقر في الجنوب …حتى أنا الذي كتب عن الهوية بأكثر مما يجب ، وجدت نفسي لحظتها بلا هوية .

نحتاج التأمل في واقعنا السياسي والاجتماعي ، نحتاج أن نترك ترف عمان قليلا ونتجه للمحافظات ، نتجه لمخازن الولاء الحقيقية للنظام ، مخازن الانتماء الحقيقية للدولة …نحتاج لأن نعيد بوصلتنا الرسمية اتجاه هؤلاء الناس ، فالأرض التي حملت جسد جعفر الطيار وجسد زيد بن حارثة وجسد عبدالله بن رواحة ..ومر فيها ألف ثورة ، وكسرت تركيا على أبواب قلعتها ..مازال ثمن متر (الموكيت ) في عمان أعلى بكثير من ثمن متر الأرض فيها ، بالمقابل الأرض التي لم تحمل تاريخا يشبه تاريخنا ، صارت القواشين فيها وسيلة ، لإنتاج طبقة تخلت عن الهوية والوجدان ..ووجدت هويتها في الصفقات والكوميشن ، في الشركات والثراء .

منذ متى كانت المواطنة مرتبطة (بالقواشين) ، ومنذ متى كانت المفاضلة بين الناس بما تملك وليس بما تعرف ؟

مشكلتنا في الأردن ، أننا نستفز لتصريح من رجل ما ، نقيم الدنيا ولا نقعدها إذا انتقدنا أحدهم ، دائما في موقع دفاع ….لقد نسينا واقعنا ، نسينا طوابير الناس التي تقف لأجل العلاج في مستشفيات الحكومة ، نسينا وجه الأردن الحقيقي …وجه بلدي ليس من الرخام ولا من الكرميد ولا من الحجر الفاخر ، وجه الأردن هو سنابل القمح وبندقية الجندي ، ومحراث الفلاح …وجهه عجن من الصبر لا من الدولارات .

أنا لا أعرف لماذا كتبت هذا المقال ، ولكن حين هاتفني صباحا أحدهم ، من أبناء جلدتي قال لي : (متذكر أبو زود …صاحب الشوال الأسود اللي لحقتو في العزا ) ..أجبته وما الغاية من تذكيري ، فأخبرني : ( اليوم الصبح يا حرام إجاني خبر وفاتو صابتو جلطة في الليل ومات ) …
بكيت لحظتها ، وأنا أسأل نفسي سؤالا موجعا حد القهر ، هل قتلته الحاجة ؟..أم القدر الذي وضعه هناك في الجنوب الصابر ؟ أم نحن جميعا بلا استثناء …قتلناه .

لقد مات ، لكن صورة (الكيس الأسود) لم تسقط من ذهني ، ستبقى حية أبد الدهر معي …
أوجعني خبر وفاتك يا رفيق ، كل ما كان بيني وبينك هو بقايا (مناسف) ، وبقايا حزن وبقايا دمع ، أعتذر منك أني لم استطع أن أفعلا شيئا لأجلك ، سوى البكاء …