عذراً يا وطني عذراً

13 يونيو 2021
عذراً يا وطني عذراً

الكاتبة : فايزة عبد الكربم الفالح

إلا أنه حال بيننا وبينك موج يلفه إعصار أقتلع أضخم شجرة قطوفها مِن صدق دانية ، جذورها راسخة المبدأ ، عميقة الإيمان ، سامقة فروعها ، مُشَبّعَة بالطَّل مُشْبِعَة الظِّل إلا إنها لم تصمد طويلا أمام هذا الإعصار ، وكأن دولة مِن الأعاصير أتحدت لقطع ساقها، وإسقاط ثمارها قبل أن يئن الأوآن لِقطافها.

حالة نحن ،،،
و بالرغم أن المدخَل كان واسعا إلا أنه حال بين دربنا نفق مظلمٌ ،بارد ٌ حُوِّلَ مساره للإتجاه المعاكس مِن خُطانا ، وصنيعة أخطائنا ، فكان الجِدار مِن يمين هذا النفق مُغطى بزجاج هش مُغبَّش، مُضبَّب الرؤيةِ مِن كلا وجهَتيه، تنكر العيون البصر، وتنكر القلوب والضمائر البصيرة، أما الذي يقابله مِن اليسار مُغطى بالمرايا التي تعكس الضوء الكاذب مِن كل جهة تنكر الصور و الملامح الحقيقية للوجوه الصادقة ، وتعشق الوجوه المذبذبة التي لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، وبالخلف مِن هذا النفق يوجد قبة صماء ، ثمانون ونيف مِن الذين يسكنون تحتها صُما بكما عميا فهم لا يفقهون ، أينما يوجِهوا لا يأتون بخير، وما تبقى منهم يقولون لأولئك: يا قوم أليس فيكم مِن رجل رشيد ، فهيهات هيهات أنى يسمعون !!!

وسارت القافلة إلى الأمام مِن هذا النفق حيث ذاك البيت المتهاوي والذي يُراد لنصبه أساس مِن الشعوب أعمدة مِن القبائل ، ركائز مِن الفصائل وتد مِن العشائر ، سقف مِن العمائر، حِبال مِن الأفخاذ ، ساح مِن البطون القحطنية العاربة ، سياج مِن العدنانية المستعربة ، قِبلَةٌ مِن التفاضل بالخُلق ، والدين والنسب وإعطاء كل ذي حق حقه ، ميدان مِن الأصول والفروع المقرونين بسياق الأكرم عند الله هي التقوى, فأنى له أن يُنصَب ! وجبابرة العرب البائدة لم تمُت بعد ، زارت المقابر فعادت تسير بأجسادها خشب مسندة تحمل ما تبقى مِن ألواحِ و دُسرِ نُعوشِها ، وتماثيل إرم ذات العماد تُلقي المسامع على وقع فؤوس ثمود وهي تنحت الجبال، على صوت عَقَر الناقة، فحُق عليهم العذاب.

أعي كما أنت تعي ، بأنك حالة أنت ،،
إستثنائية من قاعدة رثة ، مألوف لدينا مِن خارج ألا مألوف ، معقول فينا مِن إطار ألا معقول ، لذلك كنت غريبا عن الغرباء ، ولأنك غردت بعيدا عن السرب ، وغنيت باكرا على مسامع الطيور الهجينة بلحنك مَن مقطوعة النشيد الوطني للطيور ، “إن كنت تريد معرفة الحقيقة ، أتبع الطيور ؛ لتخبرك الأعشاش عنها ” ، لذلك تعاونوا مع الصياد ؛ليضلوك عن الطريق، فأوقعوا بكَ بِشَركِه غير أبهين بلحن تغاريدك الشجية، ولا سائلين عن فصيلك الذي تنتمي إليه فأخذوا بِعِشِّكَ أنتزعوه أنتزاعا من أعالي الطود الباسق ،نسفوه نسفا يجرونه بمنقار الحَدَأة ، أحرقوه ورموا برماده بوادٍ سحيق، حتى تطاير سَحَاب دخانه وراء الخذلان المطأطأ قبحا ، ليت الصقر الحر بقي منفردا ولم يقود السرب ، وليت الغراب لم يغير مِن مشيته.

ألم تكن كروم أهلي دانية ! ، ألم تكن زيتونة جيراني مباركة ! ، ومصدر رزق لهم ، وقنديل بيت الثكلى يُضاء مِن زيتها ولو لم تمسسه نار، حتى احترق القنديل بنار الحارس ، ألا يكفي جذب هذا العام ، ألا يكفي غزو الجراد لِمَ صنعته أيادينا مِن واحات حول منازلنا ،حتى يُحرق بنار عبثية لا مسؤولة ولا مبالية ،وما أشبه اليوم بالأمس ، حينما قُطِّعَت أشجار بلادي لتُحرق لتكون وقودا لمرجل قطار الترك ، حُرِّقت مزارعنا ، ولكن أين قِطارنا !

عذراً يا إبن الجنوب عذراً
ما شممته مِن نسائم الشرق لم تكن رائحة الخزامى ، ولا عبق الريحان ، ولا دهن العود ، ولا مسك “مدرقة” أمي ، ولا مخملية جدائلها ، ولا إكسير الرمان ، إنما كانت رائحة الشواء لفراخ طيور الحجل، وحمام الدار، اللائي حُرِقت بنار الحارس.

عذراً يا إبن عمون عذراً
لم يكن ما رأيته مِن دخان متصاعد في سماء بلدتي دخان عود الند والبخور ، ولا دخان حطب صاج أمي، ولا تنور الجيران، ولا دخان حطب دِلالِ القهوة العربية، إنما هو دخان لهيب نار بيوت الحي مِن لواء عمان.

عذراً يا إبن البوادي ، وجلعاد ، ووادي الريان ،لم يكن ما رأيتموه مِن دموع على وجوه الأطفال والصبيان ، والشباب والشبان دموع فرحا، إنما كانت دموع ترتشفها أياديهم مِن قنابل الغاز المسيل للدموع والذي أبكى الطير، والصخر، والشجر، والورد اليانع، وأعمدة ومشربيات الدار.

عذرا يا وطني عذرا ،،
عذراً يا عبير الياسمين، يا سنابل بيادر البساتين ،عذراً يا مداخل الدكاكين يا زينة العيدين المعلقة على الشُّرُفات، عذرا يا أشجار الصنوبر والسنديان،والزيتون والتين، ويا مناجل الفلاحين، عذراً ،للحاضرين و للغائبين،عذرا لإبن السبيل، وللفقراء والمساكين ، عذراً يا سليمان فماذا خبأت بذاكرتك ياولدي ؟ إلى حين ،،،،

عذراً يا وطني عذراً ،،،،
شعرتُ بأنني لا أساوي فلساً ولا طين ، شعرتُ بأنني أشاهد مقاطعا من مسلسل بائع الموت على ضفاف فلسطين .