باسم عوض الله …و مفهوم دولته العميقة  (1)

31 مايو 2021
باسم عوض الله …و مفهوم دولته العميقة  (1)

د. مصطفى التل
لم أتفاجأ باعتقال باسم عوض الله على خلفية الحدث الأمني الأخير في الأردن , إذ أن هذا الرجل له أيد ممتدة أعمق مما يتخيله المواطن في أحشاء الأردن , تمتد عميقا  جدا.

باسم عوض الله , لا يستهان  به , كنقطة وصل بين الداخل والخارج , فهو يمثل نقطة متحركة في جميع الاتجاهات الخارجية والداخلية , ويمسك بكثير من خيوط الوضع الراهن في المنطقة العربية بما تحمله من  صفة حركية  دائمية سياسية وعسكرية وصراعات متقلبة .

باسم عوض الله يمثل ثقلا داخليا على الساحة الفلسطينية والأردنية , وثقلا إقليميا , متمثلا على الساحة الخليجية , وثقلا عالميا متمثلا على الساحة الأمريكية والإسرائيلية بشكل عام , وتشابكه مع ملفات متعددة في المنطقة مثل ملف حماس وملف حزب الله , ومحاولته المستميتة في دفع الأطراف الخارجية لتصفية حماس عسكريا وحصارها سياسيا , مع سعيه المحموم تجاه تصفية حزب الله عسكريا وسياسيا عن طريق الضغط المباشر في واشنطن وتل أبيب لزيادة جرعاتها العسكرية والسياسية في محاصرة هاذين التنظيمين , وبشكل عام الرجل يقف ضد كل شيء ينطلق من منطلقات ( الإسلام السياسي ) , ويرى فيه تهديد صريح للمنطقة .

رجل بهذا الثقل , لا بد وأنه أسس لحالة موازية للدولة داخل الدول التي مارس نشاطه فيها , ومن هنا يبرز السؤال الأعمق : ما دور الدولة العميقة في الإيقاع بالرجل ..؟!! بمعنى آخر : هل يوجد في الأردن دولة عميقة تعمل داخل الدولة ..؟!

* ما هي الدولة العميقة ..

الدولة العميقة , دولة الظل , حكومة الظل , الكيان الموازي للدولة , جماعات نفوذ , جماعات ضغط , كلها مصطلحات تدل على وجود تكتل داخل الدولة الواحدة , غير ظاهر للعيان بشكل مباشر , يضغط ويناور بمختلف السبل والوسائل للحفاظ على مصالحه داخل الدولة الواحدة . , وتمتاز هذه التكتلات بأنها غير خاضعة للمحاسبة المباشرة سواء الرسمية أو الشعبية , وإنما تتستر وتتمترس خلف المؤسسات الحكومية التنفيذية .

وهذه التكتلات لها أذرع سياسية  ومالية ,  قانونية ,  تشريعية , وأخرى تنفيذية ,  وكلها تتحرك باتجاه واحد , وهو الحفاظ على مكتسبات هذه التكتلات , وزيادة تأثيرها , والعمل على عدم فقدانها لأي سيطرة ممكنة .

ولا يشترط لهذه التكتلات تنظيم معين محدد , ولا هيكيلية محددة , ولا بنية ذات معالم واضحة , ولا يعرفون بعضهم  في هذه التكتلات بشكل عام , إنما يسيرون بنسق واحد , وبرتم واحد  نحو حماية المكنون الأغلى في هذه التكتلات بشكل عام , وهو زيادة السيطرة داخل الدولة الواحدة .

إذن بالمحصلة “الدولة العميقة”  هي نسيجٍ من التحالفات والشبكات تمتد داخل الدولة نفسها ، ويشمل هذا النسيج بعض المسؤولين التشريعيين والتنفيذيين في الدولة نفسها  , مثل   أعضاء تشريعيين  وسياسيين ومستشاري الأعمال وغيرهم , ويشكّل الأعضاء شبكةً معقّدةً ومترابطة من المصالح المشتركة في ما بينهم. ومعظمهم لا يعرفون بعضهم البعض لكنّهم يعملون لتحقيق غاية واحدة مشتركة، وهي تطوير مصالحهم وامتيازاتهم التي حصلوا عليها وحمايتها. ويقوم أصحاب النفوذ بأعمالهم حتى ولو عارضت هذه الأعمال الأنظمة والقوانين السائدة في المجتمع،  وهي بالعموم لا  تتخطى الدولة.

من خلال التفاعل المعقد في هذه الشبكة , ومن خلال سلسلة التفاعلات اللا محدودة , وفي بعض الأحيان الخارجة عن السيطرة الكلية , تتولد قرارات سياسية أو اقتصادية  أو عسكرية أو أمنية , تتعلق بالدولة ككل , تفرض نفسها على الدولة ,كقرارات عامة , واجبة التنفيذ .

حسب المؤرخ الأمريكي (روبرت باكستون)علينا التفريق بين الدولة العميقة , والدولة الموازية , فالدولة الموازية هي  وصف مجموعة من المنظمات أو المؤسسات التي تُشبه في هيكلها وتنظيمها وإدراتها الدُول، ولكنها لا تعتبر جزءاً رسمياً من الدولة الشرعية أو الحُكومة، وتعمل في المقام الأول على تعزيز الأيديولوجية السياسية والاجتماعية السائدة في الدولة ومثال ذلك حكومة الظل في بريطانيا.

وبعض الدول تطلق مصطلح الدولة الموازية على التنظيمات والتحالفات التي تعتبرها معارضة لها كما حدث في تركيا عندما وصفت الحكومة التركية التنظيم السري لــــ (غولن) بالكيان الموازي الذي يسعى إلى تقويض الدولة والحكومة.

* هل الدولة العميقة طارئة ….

لا يوجد دولة في العالم أجمع تقوم على نسق واحد , بل لا يوجد دولة مهما صغرت جغرافيا وديموغرافيا تقوم على مفهوم الدولة الواحدة المسطحة , وتقوم على تفاعلات موحدة .

فالدولة العميقة لا تشكل حالة طارئة بالعموم , وإنما وجدت مع وجود الدول على هذه البسيطة , بأشكال مختلفة توافق زمانها وقوانينها .

وخير مثال لنا هنا هو فرعون ودولته , فعلى الرغم من أن فرعون يمثل رأس الدولة , وقوتها التنفيذية والتشريعية , إلا أنه لم يتصرف مع ( موسى ) عليه وعلى نبينا أفضل الصلوات والسلام , إلا بعد أخذ موافقة دولته بكل امتداداتها , الدولة الظاهرة والدولة العميقة , بعدما عمل هو وأجهزته المختلفة  على تشكيل رأي عام جارف , محوره أن موسى عليه الصلاة والسلام يمثل تهديدا وجوديا للدولة الفرعونية , وطلب الإذن العام بأن يفعّل قوانين الطوارئ مع موسى , ويعلنها , ولكن الرأي العام للدولة الفرعونية لم يعطه إذن اعتقال موسى عليه الصلاة والسلام , ولا قتله , بل أعطاه حرية التصرف في كيفية إطلاق شعب موسى عليه الصلاة والسلام معه .

فالدولة العميقة في دولة فرعون , رأت أن إعلان الطوارئ في الدولة الفرعونية , سيضر بتجارتها واقتصادها , وسيضر بعلاقة الدولة مع غيرها , وهذا الأمر معارضة فرعون في سعيه , لن يكون إلا من قوة غير معلنة في الدولة الفرعونية , ولكنها تمتلك قوة تغيير فرعون نفسه إن استلزم الأمر , فمهدت هذه الدولة العميقة لأقل  الطرق ضررا على دولة فرعون , وهو محاولة إقناع موسى عليه الصلاة والسلام , بأن يندمج مع الدولة الفرعونية , وذلك بالاحتكام  إلى قوانينها , ونظمها , فكانت المحاورات والحجج والمفاوضات المختلفة , تختف لينا تارة وتشتد تارة أخرى .

فرعون يطلب الإذن بإعلان حالة الطوارئ , وقتل موسى   (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) .

ولكن كان التيار العام مع محاورة موسى على مستوى الدولة , (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ ولا أَنتَ مَكَانًا سُوًى ) , ومع الوصول لطريق مسدود في الحوار والإقناع , والتهديد والوعد والوعيد , برز رأي آخر مغاير للأول عند عامة صناع القرار المؤثرين , وبتفاعل كما هو معروف في أي دولة , في شقيها الدولة الظاهرة والدولة العميقة , يطالب فرعون بحماية النظام العام للدولة في مواجهة موسى (وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) .

وهذا التيار استطاع أن يتحالف مع فرعون الرسمي وأجهزته المختلفة , واستطاع أن ينتزع من الدولة بكل مكوناتها  قرارا عسكريا …بإعلان الحرب على موسى وقومه , وشن الغارة عليه .. فإما يؤسر ويعاد للدولة وتتم محاكمته بتهم الخيانة العظمى , أو يقتل في حرب مفتوحة ومواجهة مفتوحة بين الدولة الفرعونية وموسى وقومه , وهنا يظهر أن فرعون استطاع التمويه على دولته , والتغرير بها , وانتزاع قرارا عسكريا بوضع مفاتيح الحرب بيده, وأيدت أجهزة الدولة هذا القرار بكل امتداداتها … وأنه الخيار الأنسب والأنجع للدولة  …( قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) …وكانت  مناورة فرعون الكبرى لتغطية الحقائق , عن طريق خداع قومه والاستخفاف بقراراتهم (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) ….

وتجلت حديثا الدولة العميقة مع مفهوم الدولة القومية , وظهرت بشكل واضح بعد معاهدة ويستفاليا للصلح عام 1648، وكان هدف قيام هذا النموذج هو الحفاظ على القوميات والحدود ووضع أطر واضحة للعلاقات بين الدول وشعوبها، وإنهاء حالة الصراع التي كان أحد أسبابها وفق نظرة مَن أبرموا هذه المعاهدة هو وجود الإمبراطوريات وعدم وجود ترسيم واضح للحدود مما يؤدي إلى زيادة الصراعات بين الشعوب وأنظمة الحكم المختلفة في ذلك الوقت. إن الدولة القومية الحديثة ترتكز على مبادئ ومن أهمها مبدأ “السيادة”، وهذا المبدأ يعد من المبادئ المشكلة والرئيسية لفهم دور الدولة القومية، ففي إطار السيادة تمنح الدولة السلطة والحق المشروع في  تشريع القوة القاهرة بكل مفهومها , وما في وسعها للحفاظ على النظام العام، إذا فهي لا تتحكم بالمؤسسات فقط ولكنها أيضا تتحكم في المواطنين، مما يستتبع أن الدولة هي المشرعة للقوانين وهي التي ترى تنفيذ القانون في إطار ما تراه مناسبا للحفاظ على النظام العام، فهي تحتفظ بحقها في خرق القانون متى تتطلب ذلك.  ساعد هذا النموذج على نشأة شبكات معقدة من العلاقات والمصالح التي على مر الزمان تتجذّر في مفاصل وأجهزة الدولة المختلفة والتي  – وفي لحظة تاريخية معينة- لا يمكن أن يحدث تغيير دون اقتلاع هذه الدولة من جذورها، فهي تدافع عن مصالحها بشراسة من خلال العديد من الوسائل والأدوات التي تمتلكها بفعل مفهوم السيادة الذي من خلاله تقوم بتبرير وشرعنة أفعالها.

اذن باختصار , الدولة العميقة وجدت مع وجود الدول على هذه البسيطة , ولكنها كانت أوضح  بعد معاهدة ويستفاليا , والتي قامت عليها الدولة القومية .

* الدولة العميقة في الأردن ….

السؤال الذي يتم طرحه مرارا وتكرارا : هل يوجد في الأردن دولة عميقة …؟! وان وجدت ما مدى تأثيرها على النهج العام للدولة ..؟!

الأردن كدولة ليست مستثناه من مجموعة الدول على مر التاريخ , فهي دولة قائمة , تتفاعل داخلها مفاعيل عالية جدا , قد تكون أكثر من غيرها , بحكم تشابكات الدولة المتعددة على الصعيد الداخلي والخارجي .

ولكن الغريب بالأمر , أن الأغلب  يعتقد أن مفهوم (الدولة العميقة)  في الأردن هو جهاز المخابرات العامة , وهو فهم ينم عن بساطة مَن يعتقده , ذلك أن جهاز المخابرات العامة , هو أحد الأجهزة التابعة للدولة , والمنفذ لدوره في حماية الدولة داخليا وخارجيا , إذن هو جهاز تابع للدولة الظاهرية , وليس جهاز يقبع في عمق الدولة العميقة , وان كان له تشابكات مع الدولة العميقة بمختلف تفاعلاتها , بحكم عمل الجهاز ودوره .

بعض الذين يظهرون على السطح من منظرين سياسيين , أو حتى ما يسمون أنفسهم بمراقبي المشهد , يحاولون نفي الدولة العميقة في الأردن , ونفي وجودها , وهو رأي للأسف الشديد , لا يدل على فهم طبيعة الدولة , ولا يدل على علمهم بعلم الدولة  كتخصص منفرد , بل إن الدولة العميقة بمختلف تسمياتها , تدرس كعلم منفرد ضمن نظرية الدولة , وتفاعلاتها الداخلية , سواء على الصعيد الدراسات السياسية العامة أو على صعيد الدراسات الاجتماعية المختصة بنظرية الدولة ومفاهيمها وتفاعلاتها .

و هذه النقطة سنغطيها من خلال محورين : الأول : الدولة العميقة الأردنية قبل النيوليبرال, والثاني: الدولة العميقة الأردنية بعد مرحلة النيوليبرال .

أ – الدولة العميقة قبل مرحلة النيوليبرال :

حقيقة ان الدولة العميقة في الأردن في هذه المرحلة  , كانت حالة متفردة في الدولة عن غيرها , إذ أنها كانت تجتمع على مرتكزات تتماشى وتتماهى  مع مرتكزات الدولة الأردنية نفسها , فمفاعيل الدولة من مختلف الجماعات المؤثرة , والتكتلات الاقتصادية المختلفة , ومختلف التيارات السياسية والإعلامية , وجميع المؤثرين اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وإعلاميا , كانوا ينطلقون من ثوابت الأردن الرسمي , بكل مكوناته ومحدداته , فالدولة العميقة الأردنية كانت تؤطر نفسها باطار الصراع العربي الصهيوني وتداعياته , والقدس كحاضرة فلسطين , والبعد القومي ومدى تأثيره في هذا الصراع , وحرمة التفريط بأي ذرة تراب فلسطيني على حساب الأردن الدولة والوطن .

 فركائز الدولة العميقة في الأردن هو الوضع الديمغرافي الأردني في ضوء الصراع العربي “الإسرائيلي” ومشروع “إسرائيل” القديم الجديد بحل قضية فلسطين على حساب الأردن، أو الوضع الاقتصادي من زاوية حاجة الأردن لتسيير سياسة غير صدامية مع الداعمين العرب والأجانب، وأيضا الإنحياز لمعادلة الأمن في ضوء خطر الإرهاب الداخلي والخارجي الذي يحيق بالأردن.

منطلقين بذلك من مظلة مؤسسة العرش , التي  لا تخضع للنقاش ولو على نطاق ضيق , متوحدين حول القيادة الهاشمية , متسوّرين دولتهم التي هي عنوان وجودهم , وتفردهم كأردنيين , منطلقين منها نحو العالم الخارجي .

فالدولة العميقة الأردنية هو مصطلح نُحت في بُنية الدولة الأردنية للحفاظ عليها والتمسك بالأسس والمرتكزات التي قامت عليها الدولة منذ تأسيسها ، يكافح وينافح ضد تفكيك الاقتصاد وتفكيك البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية ومواجهة التجنيس وتضييع هوية الأردن ، وهي الضمانات لاستمرار الدولة وديمومة بقائها , إذن يحسب للدولة العميقة في الأردن هو  التكيف لبناء الدولة الأردنية وسط هذه الضغوط والتحديات داخلياً وخارجياً والتي تنوء عن حملها الجبال .

فالدولة العميقة الأردنية في هذه المرحلة , مهدّت للدولة الأردنية الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني , ومكنتها من بناء دولة حديثة ذات إمكانيات مستقرة , فبنت المؤسسات الاقتصادية المختلفة , والمؤسسات التعليمية , ومصانع الإنتاج الكبرى مثل الفوسفات ومصفاة التكرير ,والبوتاس وغيرها , ومكنت المؤسسات الأمنية من التميّز على المستوى الداخلي والخارجي , مع تفاعل كبير جدا على المستوى السياسي والاقتصادي الداخلي والخارجي .

فالأغلب لم يستطع التمييز بين الدولة العميقة وبين الدولة الرسمية , لشدة تماهي الدولتين , واندماجهما في المنطلقات وصولا للنتائج .

ب- الدولة العميقة بعد النيوليبرال :

بدأت النيوليرالية في الأردن تتحرك ضمن مجال واسع جدا , وبأريحية عالية جدا , على مختلف الصعد الاقتصادية والاجتماعية , والتعليمية , والإعلامية , مما أوجد بدايات لدولة عميقة عنوانها الإحلال مكان الدولة العميقة القديمة , فكانت الصراعات في الكواليس , وكانت تصفية الحسابات , وكانت المعارك التي لا ترحم .

بدأت المرحلة باقتصاد جديد يقضي على القديم , مناهج تعليمية جديدة تقضي على القديمة , تجزئة المجزأ , وتشتيت المشتت من حيث الأصل , فبدأت تتشكل نخب سياسية واقتصادية وتعليمية وقيادية غير التي يعرفها الأردنيون ضمن مرتكزاتهم , وبدأت تظهر في الأفق بوادر تفكيك للاقتصاد القديم بجميع مكوناته , وبوادر تفكيك المنظومة الاجتماعية التي يعرفها الأردنيون , وبدأت تصل إلى التموضعات السياسية العامة على الصعيد الخارجي , من حيث مرتكزات الأردن الرسمي , ومحاولة تفتيته وإدخاله في مصادمات هو في غنى عنها, ضمن نهج لا يحكمه منطق , ولا يحتكم إلى منهجية تدريجية , بل أصبحت تتسارع تسارع السقوط الحر , نحو تشكيل منظومات على كافة الصعد , هي خارج حساب الأردنيين من حيث العموم .

مما زاد الطين بلة أن بعض النخب التي تشكلت في هذا المشهد لديها روابط قوية إقليمية ودولية , بدأت تتحرك خارج السياق العام للأردن الرسمي , وبشكل أشبه ما يكون فرديا , باتجاه مرتكزات أساسية للدولة الأردنية , وقد أدّى هؤلاء النافذون دورًا هامًّا من خلال ممارسة الضغط على الحكومات المختلفة  لإصدار مشاريع قوانين جديدة, تصب النار على الزيت ، مثل “قانون الضرائب” الذي شرّع في عهد الملقي, والذي تم إيقافه  مؤقتا بعد حكومة الملقي نتيجة الاعتراضات الشعبية عليه .

وبدأت عملية التشكيك العملي بمؤسسات الدولة الرسمية , وبث بذور الشك بين المواطنين في كفاءة هذه المؤسسات , وتحميلها عبء الدين العام , وعبء الإخفاقات الاقتصادية , وعبء الترهلات الإدارية , لتبدأ معها مرحلة المأسسة لتصفية هذه المؤسسات بشكل مستعجل تثير الريبة والشك في نفس المشاهد للمشهد .

وبدأت طرح مناهج سياسية مختلفة على الصعيد الداخلي والخارجي, حتى وصلت الى الدستور نفسه , ومحاولة تأطير تغييرات دستورية بإطار المصلحة العامة , وضرورة مجاراة الوضع الراهن الدولي والإقليمي , وبدأت عمليات طرح  تفكيك الأردن وتحطيم نسيجه السياسي والاجتماعي و العسكري والأمني ، و تم تشكيل نخب جديدة  لتدخل  في مؤسسات الدولة بعناية ودقة ، تصول وتجول وتحسم في التشريعات الإستراتيجية والسياسات العامة متوسطة وبعيدة المدى , والعمل على زرع وتكريس التناقضات في جميع وحدات والمستويات الحكومية والتشريعية ومؤسسات الدولة الأخرى , والتشكيك بمؤسسات الدولة العميقة والنخب التي تقودها ، والارتكاز على موضوع الإدماج والإقصاء للنخب والفاعلين السياسيين . وبدأت المرتكزات  تسير في اتجاه تكريس منطق الهيمنة السياسية والاقتصادية الطامحة إلى تفكيك الدولة تحت عناوين براقة مثل الترويج لمفهوم التمكين الاجتماعي والسياسي والثقافي و اعادة إنتاج المعادلة الديموغرافية وفق هندسة التجنيس ، والخطط و المبادرات  غريبة عن مجتمعنا الأردني ,  مما يُهدّد بإعادة إنتاج المشهد وفق إستراتيجية تعقيد عملية الصراع والنزاع ، و تعزيز الصراع والاشتباك بكافة صوره وأشكاله عبر الجغرافيا الأردنية , وقوده الديموغرافية الأردنية بحد ذاتها .

وبشكل عام إن  المسار الذي اختطته هذه الدولة العميقة المتشكلة حديثا  باندفاع غير مسبوق وفق رؤية الكيان الموازي بات  يُناقض مصالح الدولة والشعب الأردني.

مما استلزم على الأردن الرسمي الاشتباك مع هذه الدولة  العميقة على أكثر من صعيد , وجعل الاردن الرسمي يعمل على تفكيك هذه الدولة العميقة  أو التخفيف من تأثرها على أقل تقدير , من خلال عدة إجراءات لاحقة تستوجبها المرحلة , فجلالة الملك عبد الله الثاني , أصدر توجيهاته بإشراك المواطنين في العملية برمتها , حيث زار الملك مخيمات اللاجئين ومختلف المحافظات ودور الأيتام والجامعات من أجل الاستماع إلى مطالب المواطنين ومعالجتها وتلبيتها. وتهدف رحلات الملك المتعددة إلى العشائر والمستشفيات والهيئات والشركات التي تملكها الدولة، فضلًا عن اجتماعاته مع أعيان مختلف المناطق الأردنية إلى إيصال رسالة فحواها : (أن التغيير الاقتصادي يجب أن يسير ضمن ثوابت الأردن الرسمي , وأي تغيير يجب أن لا يمس الثوابت الأردنية , داخليا وخارجيا ) .

* باسم عوض الله والدولة العميقة :

لا نكون مغاليين إن قلنا أن باسم عوض الله مهندس الدولة العميقة  الحديثة في الأردن ضمن مشهد تحول في هذه الدولة نحو عناوين ومرتكزات تتصادم مع الأردن الرسمي , وتعمل على تفتيته , وتوظيفه في منظومة تهدف إلى التنازل عن مرتكزاته إقليميا ودوليا وحتى محليا .

الرجل وضع الأردن في برنامج اقتصادي جدلي منذ بدايته , أضعف الاقتصاد, وزرع اختلالات داخل الاقتصاد معالجته تتطلب تضحيات كبيرة  , زاد المديونية , حارب كل من وقف أمامه بكل شراسة, مستخدما كافة الأساليب بدون استثناء , كرّس مبدأ التشكيك بمؤسسات الدولة المختلفة , أوصل النهاية الى التخاصية المثيرة للجدل .

فبرنامجه الاقتصادي هو العامل الرئيسي في إضعاف الموازنة العامة للدولة الأردنية , من خلال إيجاد برنامج إنفاقي مستقل ومواز للموازنة معتمدا على المنح الخارجية , وجزء من عوائد التخاصية , مما أضعف الموازنة من خلال فقدانها الكثير من المساعدات لصالح برنامج التحول الاقتصادي .

وهو صاحب البرامج التشغيلية التي كانت قاتلة للموازنة من خلال تحميلها مبلغ مليار دينار لتشغيلها , والتي عجزت عن توفيرها , مما فتح الباب للاقتراض لتمويلها بشكل طارئ .

ومهندس صفقة نادي باريس التي اشرف عليها رغم انه كان خارج الوزارة، حيث دفع بإبرام هذه الصفقة التي أثارت جدلا وقتها بسبب شكلها وهيكلها الغريب، حيث تم استخدام كافة عوائد التخاصية والبالغة وقتها 1.65 مليار دينار، لشراء جزء من ديون الأردن الخارجية بخصم 11 % الذي اعتبر وقتها غير منطقي وكبير بكل المقاييس، لكن المفاجأة كانت بعد إبرام الصفقة، حيث تبين أنها كانت أداة لفتح جديد لباب الاقتراض خاصة الداخلية منها، ومن وقتها والدين في اتجاه صعودي خطير، ولم يستفد الاقتصاد شيئا من تلك الصفقة.

هذا كله لم يكن ممكنا إلا من خلال كيانات موازية داخل الدولة الأردنية , عمل على رعايتها , على مختلف الصعد , الاقتصادية والاجتماعية  والإعلامية , مهدّت الطريق له لتنفيذ مخططه المثير للجدل , مما شكل دولة عميقة جديدة تحت رعايته .

فالرجل له يد  في كُل مكان ,  وجماعات تتحدث بنفس أسلوبه ولونه، فهو يعتبر ظاهرة في تشكيل  مدرسة موازية  اقتصادية لإدارة الشؤون العامة, مما ساهم في مواجهة دولة عميقة قديمة ، مدرسته خلقت فوضى في إدارة الدولة الاقتصادية يدفع الأردنيين ثمنها الآن .

هذه الفوضى والصدامات ظهرت بشكل واضح إبان تولي ( نادر الذهبي ) رئاسة الحكومة الأردنية ,  حيث أن نادر الذهبي استشعر خطر الرجل , وبالعقلية الأمنية  , توجه لتفكيك الدولة العميقة التي شكلها باسم عوض الله , فتوجه لتفكيك أذرعها الإعلامية بداية , من خلال عقد حلف غير معلن بإنتاج شخصيات تكوّن مشهد مناقض في العمق الإعلامي العام , فكانت شخصيات إعلامية تتحد  مع الذهبي برؤيته أن باسم عوض الله يشكل تهديدا واضحا وصريحا على الهوية الأردنية .

وعمل الذهبي أيضا على اختراق تيار باسم عوض الله الإعلامي نفسه من خلال فتح الباب لإعلاميين كان من المتوقع أن يكونوا كفة توازن داخل الأذرع الإعلامية في الكيانات الموازية التي شكلها باسم عوض الله , فرفع السقف لبعض الإعلاميين  .

فالذهبي لم ينظر لعوض الله كشخص , بل نظر إليه أنه كيان مستقل بدأ بالتشكل داخل الدولة الأردنية , فكرا ونهجا , وان تحركاته الغربية والإقليمية تشكل عوامل ضاغطة على الأردن ستظهر نتائجها لاحقا .

فكان الهجوم المعاكس من عوض الله بإثارة ما تم تسمبتها ( أزمة الجغرافية ) في وقتها , وسط النخب العامة .

والصراع بلغ أوجه مع سعد خير مدير جهاز المخابرات العامة , حيث حاول باسم عوض الله الزج بالجهاز في صراعات داخلية لإشغاله عن الساحة الخارجية , حيث أن باسم عوض الله وكياناته الموازية حاولوا كف يد الجهاز عن التدخل وتقديم المشورة بشأن الأردن كسياسة عامة , وكسياسة مستقلة , تستقى منها النهج العام للسياسة الأردنية , في نهج يتطابق مع التوجهات الغربية حيال هذا الجهاز الوطني المهم .

فكان الذهبي , وكان البطيخي , وكان سعد خير , خير مثال لهذا الصراع مع نهج جديد وفكر جديد بدأ يتشكل داخل الدولة الأردنية برعاية باسم عوض الله , عنوانه ( المرتكزات القديمة للدولة الأردنية لم تعد فاعلة ويجب تغييرها ) .

* دولة باسم عوض الله العميقة وآلية تحركها …

الدولة العميقة التي أسسها باسم عوض الله , وجعلها في صدام مباشر مع الدولة العميقة التقليدية الأردنية , تتحرك من خلال أذرعها الإعلامية بشكل عام , لتوظيف الاختلالات في الاقتصاد الأردني والتي أوجدها باسم عوض الله نفسه , لخدمة هدف البعبع الذي يتم استجماعه لتخويف الأردن الشعبي , من شح الموارد , والمديونية , والاقتصاد الذي هو على مشارف الانهيار , ولا مخرج للشعب الأردني إلا من خلال اقتصاد باسم عوض الله .

هذه الكيانات الموازية تتحرك على صعيدين :

الأول : الصعيد  الإقليمي :  ويشمل التمهيد لاختراق بعض الدول الخليجية للوصاية الهاشمية على القدس والمقدسات فيها , من خلال مجموعة مؤسسات ومنظمات مجتمعية أسسها باسم عوض الله نفسه في القدس , وبتمويل إماراتي مباشر, بالتعاون مع بعض الصهاينة  , وهي السبب المباشر لاعتقاله حسب ما نشرت عمون في بدايات اعتقال الرجل .

فاعتقاله جاء على خلفية شبهات أمنية من بينها علاقات مشبوهة واستغلال “مجلس القدس للتطوير والتنمية” لشراء أراض لصالح المستوطنين الإسرائيليين في مدينة القدس، وهو ما نفاه المجلس لاحقاً.

و مجلس القدس للتطوير والتنمية مؤسسة تعمل في القدس، وهي مقربة من الإمارات وتتلقى دعماً منهاً، وقد وثقت شبكة القسطل الإخبارية منشورات على صفحتها الرسمية تشير إلى ذلك، كما تحدثت العديد من المصادر عن علاقة محمد دحلان بأنشطة مجلس القدس.

وباسم عوض الله هو الرئيس التنفيذي لـ”شركة طموح” في دبي، ونائب رئيس مجلس إدارة “البنك العربي – الأردن”، وعضو مجلس إدارة “مجموعة البركة المصرفية” في مملكة البحرين منذ عام 2010، و”البنك العربي الوطني” ممثلاً عن “البنك العربي – الأردن”.

وفي 13 فبراير/شباط 2020 نشرت الصفحة الرسمية للمجلس عن حفل توقيع منح لدعم 18 مؤسسة من مؤسسات العمل الأهلي والمجتمعي بالقدس مقدمة من صندوق أبو ظبي للتنمية، وتُظهر منشورات المجلس وجود دور إماراتي مباشر في نشاطاته في القدس، والتي تأتي تحت ستار العمل الأهلي والخيري في القدس.

وفي السياق ذاته يذكر بأنّ سري نسيبة، وهو رئيس مجلس القدس للتطوير والتنمية، قد حاول تشكيل قائمة انتخابية للترشح في انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، ضمن قائمة أسماها بـ” القدس أولاً”، وحذرت مؤسسة القدس الدولية في بيانٍ سابقٍ لها من أنّ تشكيل هذه القائمة سيضع الإمارات في موقع المتحكم بالمرجعية المقدسية، ويسمح للقيادة الإماراتية بجعلِ القدس ميدانَ إسداء خدمات التطبيع والتحالف للصهاينة، وبعد فشل نسيبة في تشكيل تلك القائمة، أعلن سري نسيبة عن ترشحه ضمن قائمة الأمل والمستقبل النيابية التابعة  لمحمد دحلان.

الثاني : على الصعيد الدولي :  وهذا نستطيع تحديده من خلال تسريبات ويكليكس الشهيره , فالرجل كان يعد مرجعا للولايات المتحدة في الاسترشاد لطبيعة علاقاتها بدول المنطقة , ويلاحظ ارتباط عوض الله بإدارة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، واختفاء ذكره في حقبة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما.

حيث استعرض “ويلش” الموقف الأمريكي من الأحداث الدائرة على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، عوض الله أكد أنه لا يمكن توقع الصمت من الإسرائيليين، بل إنه حث الولايات المتحدة على أن تقوم بالضغط على إسرائيل؛ لتركيز ردها العسكري على حزب الله نفسه.

وطلب ويلش “أن يوحد أصدقاء الولايات المتحدة من العرب موقفهم معها؛ للضغط على الحكومة اللبنانية لإصدار بيان جيد” وأنهم بحاجة لأن يحذروا السوريين بسبب موقفهم الخطير، والذي أتى على لسان فاروق الشرع، والذي امتدح العمل الذي قام به حزب الله.

وفق عوض الله: “هذا شأن عربي”، والأردن سيقوم بالضغط من أجل إصدار بيان يدين المليشيات، والتي تؤدي إلى صراعات لا ترغب بها أي من الدول العربية.

وبمكنك أخي القاريء أن تستلهم موقف عوض الله من باقي المنطقة , ومدى تغلغل الرجل في تحديد مواقف الدول الدولية من هذه المنطقة .

أكتفي بهذا الجزء ..وان شاء االله تعالى سنتبعه بجزء آخر حول دولة باسم عوض الله العميقة ..