وطنا اليوم – أكادُ أُجزم وأنا الشاهد على ذلك أن جميع السفراء الذين تسنّموا منصب السفير العراقي في الأردن بعد عام 2003، ولغاية الآن هم من العناصر الكفوءة والمخلصة التي عَمِلت بجدٍّ وجُهدٍ واضحين حيال الجالية العراقية المتنامية من جهة، ولصالح العلاقات العراقية-الأردنية وتطويرها من جهة أخرى، وكذلك أفراد السفارة وموظّفيها الكرام. ونفس المزايا تنطبق على السفراء السابقين من أول سفير لها المرحوم جميل باشا الراوي عام 1946، ولغاية أخر سفير قبل الاحتلال د. صباح ياسين، وهذا ما سمعناه وتردّدَ على ألسُنة من آلفهم حينذاك، بغضّ النظر عن انتماءاتهم السياسية والأنظمة والحكومات المتعاقبة في العراق وسياساتها.
المقولة المأثورة والمبتورة (رضا الناس غايةٌ لا تُدرك) هي فكرة سائدة ومتبادلة ما بين الجالية العراقية والسفارة. في المقابل فأن المثل الشعبي (السمكة، مأكولة مذمومة …!) ينطبق على جهد السفارة وأعضاءها حيال كل ما يقدمونه من واجبات وخدمات لجمهورها، والأمثال تُضرب ولا تُقاس، فالناس تختلف في عقولها وأهواءها. وفي كلا الحالتين هي كلمات فيها الكثير من التجنّي، وقليل من الصحّة لكن السؤال المطروح في هذه الفترة الحرجة:
هل الجالية العراقية بكل فئاتها راضون عن أداء السفارة وسفيرها…؟
وهل سفارتنا في عمّان أقنعت جاليتها بما يلزمها خلال أزمة كورونا…؟
ما يهمّني كمواطن عراقي مُقيم في الأردن منذ أمدّ ومتابع ومراقب في نفس الوقت هو التفاعل الحقيقي الملموس بين السفارة والجالية وما ينتج عنه من قبول وإيجاب، وما يصدر من عوائق ومآزق لا بد أن تحدث من هنا وهناك خاصة مع جالية وصل تعدادها في أدنى حالتها إلى مائة وعشرين ألف نسمة تتفاوت طبيعتها الاجتماعية والثقافية والمادية وحتى النوعية، وهو رقم كبير نسبيّاً إذا ما قورن مع جاليات أُخر، فالسفارة بهيكلها وعنوانها هي بيت العراقيين الكبير وملجأهم، وسفيرها هو الأب الراعي لتلك الجالية والمرجع الأخير لهم.
السيد حيدر منصور العِذاري، السفير الحالي كان قد التحق بمنصبه الجديد قادماً من سفارتهِ في روسيا منتصف شهر ت2 عام 2019، وأجرى خلال الأيام الأولى من عمله لقاءات متعاقبة مع شرائح مختلفة من أبناء الجالية، بتنسيق وجهود مخلصة من رئيس الجالية د. محمد ثابت البلداوي. فكنتُ واحداً ممن التقاه بعد أكثر من شهر من مباشرته العمل مع مجموعة من الزملاء المحاربين القدامى، فوجدّته رجل خمسيني دمث الأخلاق، بشوش الوجه وصاحب ابتسامة، خجول المحيا وهادئ الطبع، لكنه واثق الخطوة. بعد عبارات الترحيب المتبادلة عقّبتُ في مداخلة أثناء اللقاء وقلت له: (لا أعرف يا سعادة السفير إن كان انتقالك إلى منصبك الجديد في عمّان هو من سوء طالعك، نظراً للضغط الشديد الذي تتعرض له السفارة من مراجعين وزّوار في كافة دوائرها، وأنت القادم من دولة كبرى، عظيمة بتاريخها، جميلة بنسائها وهادئة في العمل بها وسط جالية محدودة جداً…؟ أم من حُسن حظّك، لأن الجالية الموجودة الأردن بعد عام 2003، هي من أكبر الجاليات العراقية المنتشرة في أرجاء المعمورة نسبياً، وهم نّخبة طيّبة، تجمعهم ألفة ومحبّة، يتلاقوا في مناسبات اجتماعية عديدة ولقاءات واحتفالات متنوّعة، ستكون أنت بينهم في قادم الأيام وستكرّم أينما ذهب ويُحتفى بك أينما حلّلت مما سيؤنسك ذلك، وهذا ما لا تجده لا في روسيا ولا في غيرها من الدول …؟) فردَّ السفير العذاري قائلاً: (إنَّ نقلهِ إلى الأردن جاء بطلب من وزير الخارجية العراقي لأسباب عديدة…! لذلك فأمامي عمل جَهيد وجُهد كبير وواجبات أكثر لخدمة الجالية العراقية وكسب ودّهم، وأيضاً تعظيم العلاقات بين العراق والأردن ونيل ثقة وأمانة الحكومتين، وأنا فخور بهذا التكليف).
خلال الأسابيع الأولى من عمله المضني في السفارة، لمسنا ما قاله السفير في أفعاله ومنها تحديد يوم الخميس من كل أسبوع موعداً مفتوحاً لمقابلة أي مواطن لديه طلبات أو متعلّقات إدارية أو مظلومية، بحضور القنصل والمُلحَقيَن الصحي والثقافي وذوي الشأن. فكانت بادرة سابقة تُحسب له عن أسلافه. كما قام السفير حيدر العذاري، بفتح حساب شخصي منفصل له على تطبيق (الانستغرام) ليتلقّى من خلاله استفسارات المواطنين ومناشداتهم، ويردُّ عليها بنفسه.
لكن يبدو أن (سوء الحظ…) كان الأقوى والغالب لكن بشكل آخر! ففي شهر آذار من السنة المقبلة أي بعد أربعة أشهر من تسنّمه المنصب، وصل لهيب فايروس كورونا إلى الأردن، ليحرق الأخضر واليابس وليسدلَ الستار على الحياة الطبيعية الهادئة لتبدأ معها حياة أخرى من التوجّع والضيق بين الناس وتدخل معهم الحكومة الأردنية في مَعمَعة جديدة ومنهم أبناء الجالية ومعهم السفارة وكادرها.
أولى تلك المحنّ التي مرّت بها السفارة وربما أهمها هو تأمين استلام المتقاعدين لرواتبهم، وكيفيّة وصولهم إلى مصرف الرافدين في الوقت الذي فُرض فيه حظر على حركة السيارات في كافة أنحاء الأردن، والأيام تمضي بهم والداء يستفحل على الجميع. فنفرت السفارة سيارتها الرسمية المحدودة-المعفاة من منع التجوال-ووزعتها في أماكن منتخبة من العاصمة وقامت بنقلهم إلى المصرف وإعادتهم إلى نفس النقطة. فكانت مبادرة ذكية أشرحت صدور المتقاعدين في حينها، في أول تحدّي عسير يجتازه السفير الجديد والسفارة بنجاح ويحصد بذرة الائتمان الأولى من الجالية.
ونظراً للظرف الصحي الراهن الذي مرَّ به الأردن وشعبه، فقد انتخى عدد من العراقيين النبلاء وهم ضيوف في هذا البلد بالتبرع النقدي السخي لصالح وزارة الصحة زاد عن النصف مليون دولار، وتبرعات عينية أخرى كوقفة تضامنية معها لمواجهة هذه الجائحة الخطيرة، وفي نفس الإطار قام السفير بنخوة عدّد من رجال الأعمال والمستثمرين الأجلّاء عبر الاتصال المباشر معهم، لتقديم ما استطاعوا من عون للعوائل العراقية المتعفّفة التي تضرّرت من الإجراءات والتعليمات الأمنية الصارمة، فكان صدى استجابتهم إيجابي لم يُخيّب ظنَّ السفير بهم، فتعاونت السفارة معهم في توزيع أكثر من عشرة ألاف طرد غذائي مستعجل وأمّنت لهم العجلات اللازمة لتوزيعها على محتاجيها داخل عمّان وخارجها وشملت عوائل غير عراقية أيضاً لأن البيت واحد والمصيبة واحدة، في خطوة نالت استحسان الجميع ورحّبت بها الأوساط الحكومية والإعلامية.
كما واجهت السفارة في بداية انتشار المرض مشكلة مواطنيها الزائرين الذين تقطّعت بهم سبل العودة إلى العراق وبالعكس، وبدأت مدخّراتهم بالنفاد بعد أن أغلقت الأردن كل منافذها البرية والجوية بوجه القادمين والمغادرين، فلزم الأمر إجراء تنسيق عالي وعلى المستوى الشخصي بين السفير وخلية الأزمة الحكومية لاستحصال الموافقات الأصولية لإجلاء الرعايا العالقين. أسفرت نتائج هذه الجهود الحثيثة بالسماح بدخول الطائرات العراقية الأجواء الأردنية، فيما تبرّع أحد الصناعيين العراقيين النُجباء بحافلاته الخاصة لنقل المسافرين إلى المطار مجاناً وبيسر، حتى وصل عدد المغادرين خلال تلك الفترة العصيبة أكثر من ثلاثة ألاف وخمسمائة مسافر، فكان ذلك حَراك ناجح تميّزت به السفارة عن بقية السفارات العراقية في المنطقة…!
مشكلة أزليّة تؤرق الجالية باستمرار وما زالت، إلا وهي الغرامات اليومية التراكمية لمن تجاوز مدّة إقامته الرسمية، وبعضهم تعدّت المئات من الدنانير بل وآلاف. وهذه المشكلة هي خارج صلاحية السفارة وحتى خارج صلاحية وزارة الداخلية الأردنية نفسها، لأن هذا الإجراء خاضع لقانون عام ينطبق على جميع الأجانب الوافدين إليها. لكن السفير العذاري، ومن خلال تواصله بشكل شخصي مع وزير الداخلية استطاع أن يعفي عدداً من المشمولين بهذه الغرامات ضمن صلاحية الوزير القانونية المحدودة.
السفارة العراقية في المملكة الأردنية الهاشمية، هي أشبه بوزارة خارجية مصغّرة، وقنصليتها هي المكان الأكثر احتكاكاً بالمراجعين العراقيين والأجانب، ويستقبل أكثر من مائة مُراجع يومياً، والقنصل وموظفيه هم مرآة للسفير وللسفارة أمام العراقيين، لذلك يحرص كل سفير وكل قنصل على إرضاء كل من يطرق بابهم لإنجاز معاملته بشكل سريع، حتى يخرج منها منبسطاً ومرتاح البال، وهذا يحتاج إلى سعة صدر وكثير من الحِلم والصبر، لكن بعض المعاملات تصطدم بالقوانين السارية من مصدرها، ولا حيلة للسفارة من ذلك.
في بداية الأزمة واشتدادها استمرت القنصلية في تقديم خدماتها بشكل يومي للجمهور دون تلكّؤ وبكل همّة ونشاط، لكن لا مناص من هذا الداء اللعين فوقع الفأس بالرأس حين أصيب في شهر أيلول من السنة الماضية سبعة موظفين من السفارة بمضاعفات ذلك الداء بما فيهم السفير نفسه، وفي شهر آذار الماضي أبتلى اثنا عشر موظفاً آخر به، فأغلقت السفارة أبوابها أمام الجميع حتى إشعارٍ آخر، لكن سرعان ما تعافى الجميع وعادت السفارة إلى عملها المعتاد بعد أسبوع.
ما بين انتشار جائحة كورونا في الأردن في الربع الأول من العام الماضي وهذه الأيام؛ واجهت السفارة العراقية الكثير من التحديات والمواجهات بعضها بسبب هذا البلاء وبعضها طبيعية يومية، لكن بجهود الخيرين من موظفي السفارة ورؤساء الأقسام والملحقين ورأس السفارة السفير حيدر العذاري، استطاعوا أن ينجزوا ما بوسعهم ويمتصّوا ضغط العمل قدر المستطاع إرضاءً لأبناء الجالية وتحقيقاً لمتطلباتهم وهذا أمر طبيعي.
كل ما ذكرناه أعلاه هي أمثلة متواضعة لا على سبيل الحصر، وهناك حالات فردية من هنا وهناك، تدخّلت السفارة واجتهدت بحلها في زمن كورونا؛ هي بمجملها ليست من صلب واجباتها ولا من ضمن الأعمال المنوطة بها رسمياً، بل جاءت من دافع إنساني ووازع أخلاقي وحسّ وطني مثلما يحدث بين أفراد العائلة الواحدة. وهذا ما لا بدَّ منه ونحن عراقيون في غربة، أو كما قال الإمام علي: الفقر في الوطن غربة والمال في الغربة وطن …!
إن السفارة العراقية في عمّان هي كأي من مثيلاتها سفارات الدول الأخرى، تلتزم بقوانين وقرارات الدولة المستضيفة ولا تعلوا عليها مهما كانت الأسباب والظروف. أما الحالات الاستثنائية فلها حلولها الخاصة في حدود معيّنة تتطلب تدخّل السفير بنفسه إذا ما لزم الأمر وكذلك الحالات الإنسانية، والحق يقال إن السفير لم يأل جهداً في تقديم يد العون مع هكذا حالات. لكن تبقى هناك في الأوفق -وهذا ما لا يمكن إنكاره، ولا يتبرّأ منه أي مسؤول -مشاكل عالقة منذ أمدّ تمس الجالية بل تؤلمهم وترهقهم أحياناً، تُجابهها قوانين وقرارات لا يمكن حلّها إلا بجهود شاقَّة ومباحثات بأعلى المستويات بين الجانبين.
في سنوات ما بعد عام 2003، أصبح منصب السفير العراقي في الأردن غنيمة تتنازع عليه أطراف سياسية متنافسة، وكثير ما تعرّض السفراء السابقين إلى تنمّر واتهامات من قبل طامعين وخائبين، وهذا ما واجهه السفير العذاري، أيضاً، حينما اتهمه علناً أحد السياسيين الفاشلين في بغداد بالفساد المالي، ولم تلقى تلك المزاعم إذناً صاغية من أي جهة ولم يصدّقها حتى المعتوه لأنها بلا دليل ولا أي مسوّغ قانوني…!
الآن وبعد أن خفّت إصابات كورونا في الأردن ولله الحمد وبدأت بالانحسار تدريجياً، آن الآوان أن يعود السفير حيدر العذاري، إلى برنامجه الأسبوعي في استقبال أبناءه كل يوم خميس، بنفس البشاشة والمودّة والهمّة التي اعتاد عليها من قبل وهو أهلٌ لها وخير من يمثلنا، ونشدُّ فيها على يده لأن في تفعيلها سيعطي لمن يستنجد به جواباً وافياً، وحلاً سريعاً، ويُزيل جدران البيروقراطية وعوائقها، ويفتح نهج الشفافية ونزاهتها، وسوف يُدرك موظفو السفارة غاية الناس ورضاها، وتصبح السفارة سَمَكة تَتخم من يدخلها ومُنشرح من خَدَماتها وبالتأكيد سيحمدون الله على نعمته … وما التوفيق إلا من عنده.
وصَدَقَ الشاعر العبّاسي أبو العيناء حين قال:
إذا رَضيتْ عنّي كرامُ عشيرتي · · · فلا زال غضبَاناً عليَّ لِئامُها
السفير حيدر العذاري، مُستقبلاً نُخبة من أبناء الجالية العراقية في لقطة تذكارية أمام مبنى السفارة في 6 ك 2 2020، وكاتب هذه السطور الأول من اليمين