الجيولوجي الشوابكه يكتب : انهيارا الطرق في الأردن : عندما يُقصى العلم وتُدار الدولة بمنطق “الفزعة”

دقيقة واحدة ago
الجيولوجي الشوابكه يكتب : انهيارا الطرق في الأردن : عندما يُقصى العلم وتُدار الدولة بمنطق “الفزعة”

وطنا اليوم –  كتب  الجيولوجي خالد فياض الشوابكة نقيب الجيولوجيين الأردنيين  رئيس اتحاد الجيولوجيين العرب

ما شهده الأردن خلال السنوات الأخيرة، وبرز بوضوح خلال المنخفض الجوي الأخير، من انهيارات أرضية وانزلاقات وإغلاقات متكررة للطرق، خاصة في محافظة الكرك وعدد من محافظات المملكة، لم يعد حدثًا عابرًا يمكن اختزاله بالأمطار أو تحميله للظروف الجوية وحدها. ما جرى ويجري هو نتيجة مباشرة لفشل تخطيطي متراكم، ولسياسات طويلة الأمد همّشت العلم، وأقصت الجيولوجيا والجيولوجيين عن مواقع القرار، وحوّلت إدارة المخاطر الطبيعية إلى ردود فعل موسمية تُدار بمنطق “الفزعة”.
الأمطار لم تكن يومًا هي المشكلة الحقيقية، بل كانت العامل الذي كشف الخلل. فالأردن بلد معروف جيولوجيًا بتعقيده وتنوعه، وبوجود صدوع وتراكيب جيولوجية نشطة، وتكاوين صخرية هشة، وترب شديدة الحساسية للتشبع بالمياه، إضافة إلى منحدرات غير مستقرة بطبيعتها. هذه الحقائق ليست أسرارًا ولا اكتشافات حديثة، بل من أبجديات علم الجيولوجيا، ومع ذلك تُنفّذ مشاريع طرق وبنى تحتية كبرى دون دراسات جيولوجية وجيوتقنية حقيقية، أو تُختزل هذه الدراسات إلى تقارير شكلية لا تؤثر في القرار ولا في التنفيذ.
النتيجة باتت معروفة ومتكررة؛ طرق تنهار، منحدرات تنزلق، جدران استنادية تفشل، ثم تُغلق الطرق، وتتوقف الحياة، ويبدأ سباق الطوارئ. وما حصل في طرق الكرك من انهيارات وإغلاقات خلال السيول الأخيرة لم يكن استثناءً، بل مثالًا صارخًا على هذا النهج، حيث أعادت الأمطار طرح السؤال ذاته: لماذا تُنفّذ هذه المشاريع في الأساس دون فهم حقيقي لطبيعة الأرض؟
المفارقة الصادمة أن وزارة الأشغال العامة والإسكان، المسؤولة عن آلاف الكيلومترات من الطرق والجسور والمنشآت، لا تضم في كوادرها سوى عدد محدود جدًا من الجيولوجيين ( 5)، لا يتناسب مطلقًا مع حجم المسؤولية ولا مع مستوى المخاطر الجيولوجية في المملكة. إن صحّت هذه الأرقام، فنحن لا نتحدث عن تقصير إداري عابر، بل عن خلل بنيوي في فلسفة التخطيط، وعن تعامل مع الجيولوجيا بوصفها عبئًا يمكن تجاهله، لا عنصرًا أساسيًا في القرار.
بعد كل انهيار، يتكرر المشهد ذاته بلا أي تغيير جوهري. تُرسل الآليات، يُردم الموقع على عجل، يُفتح الطريق مؤقتًا، وتبدأ التصريحات. لكن الحقيقة التي أثبتتها التجربة أن الحلول الإسعافية لا تمنع الكارثة، بل تؤجّلها فقط إلى أول مطر قادم. إدارة المخاطر لا تبدأ بعد الانهيار، بل قبل التنفيذ بسنوات، عندما يُختار مسار الطريق، وتُدرس التكوينات الجيولوجية، وتُقيّم السيناريوهات الأسوأ.
يواكب ذلك مشهد إعلامي مألوف، حيث يهرع المسؤولون إلى المواقع المتضررة، تصطف الكاميرات، وتُطلق عبارات منمّقة عن المتابعة والتوجيهات وفتح الطرق في أقرب وقت. ينتهي العرس الإعلامي، وتُطوى الصفحة دون محاسبة، ودون مراجعة علمية، ودون سؤال جوهري واحد: لماذا انهار الطريق أصلًا؟ ومن سمح بتنفيذه بهذا الشكل؟
المشكلة ليست نقصًا في الكفاءات، فالأردن يزخر بجيولوجيين مؤهلين علميًا وعمليًا، لكنهم مغيّبون عن لجان التخطيط، غير مشاركين في اختيار مسارات الطرق، ولا يُستشارون في تصميم الجدران الاستنادية أو تقييم المخاطر. هذا التغييب المقصود جعل القرار الهندسي منفصلًا عن الواقع الجيولوجي، وكأن الأرض مجرد سطح يُعبَّد، لا نظام حيّ يتحرك ويتفاعل.
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو: إلى متى ستُدار الدولة بعقلية الطوارئ؟ وإلى متى سنبقى نداوي الفشل بالتصريحات والفزعات؟ إعطاء الخبز لخبازه ليس مثلًا شعبيًا فحسب، بل قاعدة إدارة علمية. فالطرق لا تُحمى بالآليات ولا بالظهور الإعلامي، بل تُصمَّم وتُنفَّذ وتُراقَب وفق أسس الجيولوجيا والجيوتقنية وإدارة المخاطر.
إن استمرار هذا النهج يعني مزيدًا من الانهيارات، ومزيدًا من الإغلاقات، وخسائر مالية متراكمة، وربما خسائر بشرية. وعندها لن يكون السؤال ماذا حدث، بل من يتحمّل مسؤولية هذا الفشل.
الطرق لا تنهار لأن المطر نزل، بل لأنها بُنيت دون فهم الأرض التي تحتها. وما لم ننتقل من إدارة الكوارث إلى منعها، ومن الفزعة إلى التخطيط، ومن تهميش الجيولوجي إلى احترام دوره كشريك أساسي في القرار، فإن الأرض ستواصل الرد بطريقتها. والأرض، كما أثبتت، لا تنتظر، ولا تعبأ بالتصريحات.
الحلول لا يمكن أن تكون إسعافية أو شكلية، بل يجب أن تعالج جذر المشكلة وتُنقل الدولة من منطق “إدارة الأضرار” إلى منطق منع المخاطر. ويمكن تلخيص الحلول العملية القابلة للتطبيق في الأردن بما يلي :
أولًا : إعادة الاعتبار للدراسات الجيولوجية كشرط إلزامي
لا يجوز طرح أو تنفيذ أي مشروع طرق أو بنية تحتية دون دراسة جيولوجية وجيوتقنية وهيدرولوجية متكاملة، تكون مستقلة وملزمة في نتائجها، وتؤثر فعليًا في اختيار المسار والتصميم، لا أن تكون تقريرًا شكليًا يُحفظ في الأدراج. ويجب أن تُراجع هذه الدراسات من جهة فنية محايدة، لا من الجهة المنفذة نفسها.
ثانيًا : إشراك الجيولوجيين في القرار لا بعد الكارثة
ينبغي وجود جيولوجيين مختصين بشكل دائم ضمن لجان التخطيط واختيار مسارات الطرق وتصميم الجدران الاستنادية والمنحدرات، وليس استدعاؤهم بعد الانهيارات. الجيولوجي ليس جهة استشارية ثانوية، بل شريك أساسي في القرار الهندسي.
ثالثًا : تعزيز كوادر وزارة الأشغال والبلديات بالاختصاص الجيولوجي
لا يمكن إدارة شبكة طرق وطنية في بلد عالي الخطورة الجيولوجية بعدد رمزي من الجيولوجيين. المطلوب تعيين كوادر جيولوجية مؤهلة في وزارة الأشغال والبلديات وأمانة عمان، موزعين حسب الأقاليم، مع صلاحيات حقيقية في التقييم والاعتماد.
رابعًا : إعادة تقييم الطرق القائمة عالية الخطورة
يجب إجراء مسح وطني للطرق القائمة، خاصة في المحافظات الجنوبية والوسطى ذات الطبيعة الجيولوجية الحساسة مثل الكرك والطفيلة ومعان والسلط، لتحديد المقاطع الخطرة، ومعالجتها جذريًا، لا ترقيعيًا، قبل وقوع الانهيار لا بعده.
خامسًا : إلزام المقاولين والمكاتب الاستشارية بالمسؤولية الفنية
أي مشروع ينهار بعد سنوات قليلة من تنفيذه يجب أن يُراجع فنيًا، ويُحدد فيه مكمن الخلل والمسؤول عنه، سواء كان مكتبًا استشاريًا أو جهة منفذة. المحاسبة الفنية شرط أساسي لوقف تكرار الفشل.
سادسًا : بناء قاعدة بيانات وطنية للمخاطر الجيولوجية
الأردن بحاجة إلى قاعدة بيانات جيومكانية وطنية تُصنّف المناطق حسب درجة الخطورة الجيولوجية، وتكون مرجعًا ملزمًا لجميع المشاريع، بحيث لا يُسمح بتنفيذ أي مشروع دون الرجوع إليها.
سابعًا : الانتقال من ثقافة الطوارئ إلى ثقافة التخطيط الوقائي
الآليات يجب أن تكون في مواقع العمل قبل الكارثة، لا بعدها. الصيانة الوقائية، ومراقبة المنحدرات، وتنظيف قنوات التصريف، ومتابعة التشققات، كلها إجراءات تمنع الانهيار بدل التعامل مع نتائجه.
ثامنًا : إرادة سياسية تعترف بالمشكلة
أخطر ما في المشهد الحالي هو التعامل مع الانهيارات على أنها “قضاء وقدر”. الاعتراف الصريح بأن ما يحدث فشل تخطيطي وليس كارثة طبيعية هو الخطوة الأولى للإصلاح.
الخلاصةز
الحل ليس مستحيلًا، لكنه يتطلب احترام العلم، وتمكين الجيولوجيا، وإعطاء القرار لمن يفهم الأرض قبل أن يغضبها. فالأمطار ستتكرر، لكن الانهيارات ليست قدرًا محتومًا، بل نتيجة خيارات يمكن تصحيحها إذا توفرت الإرادة.