أ.ك. مصطفى عيروط
أحسنت حكومة دولة الدكتور جعفر حسان في اتخاذ قرار وقف نزيف التخلّص من الخبرات تحت عنوان «التقاعد المبكر»، والإبقاء على من أمضوا ثلاثين عامًا في الخدمة ما دامت المؤسسات ما زالت بحاجة إليهم. فهذا القرار السليم لا يحافظ فقط على الخبرات المتراكمة، بل يُسهم أيضًا في الحد من استنزاف أموال الضمان الاجتماعي، ويُلغي سيفًا كان مُسلَّطًا بيد البعض تحت مسمّى التقاعد المبكر.
وانطلاقًا من هذا النهج الإيجابي، أتوجّه إلى دولة رئيس الوزراء الدكتور جعفر حسان بطلب تجميد العمل البند 1 من الفقره (د) من المادة (21) من قانون التعليم العالي رقم (18) لسنة 2018، والتي تُنهي خدمة عضو هيئة التدريس عند بلوغه سن السبعين.
ومن خلال ما أعرفه وأسمعه بامانه وإخلاص من واقع الجامعات، فإن تطبيق هذا النص القانوني أثّر – وما زال يؤثر – سلبًا على أقسام وكليات في جامعات الحكومية، ويمكن التحقق من ذلك ميدانيًا. فقد أدى إلى إنهاء خدمات كفاءات أكاديمية عالية التأهيل، وصلت إلى رتبة الأستاذية، وحملت خبرات علمية وعملية من جامعات عالميه ووطنيه وما زالت تتمتع بصحة جيدة، وتمثّل كنزًا معرفيًا وخبرة متراكمة لا يجوز التفريط بها.
ومن غير المقبول أن تُنهى خدمة عضو هيئة التدريس في اليوم نفسه الذي يبلغ فيه السبعين كما تفعل بعض إدارات جامعيه ، وبأسلوب لا يراعي تاريخه العلمي ولا ما قدّمه من خدمات، بل أحيانًا قبل أن يُكمل عامًا دراسيًا أو فصلًا بدأه بالفعل بل يعامله البعض كغريب وقد أمضى عمره في الخدمه . كما أن إنهاء خدمات عدد من أعضاء هيئة التدريس ممن تجاوزوا السبعين – ومنهم أكثر من اثني عشر عضوًا في إحدى الجامعات – قبل مده ، يفتح ملف حقوقهم المالية، في وقت تعاني فيه جامعات أصلًا من أزمات مالية خانقة.
ولهذا، فإنني أطالب للمصلحة العامه بتجميد العمل بإنهاء الخدمة عند سن السبعين، والإبقاء على عضو هيئة التدريس كما كان سابقًا حتى سن الخامسة والسبعين، ما دام يتمتع بالصحة الجيدة، ويعمل بنشاط وهمّة، ويواصل العطاء والمتابعة. وتفعيل البند ب من الفقره د من قانون الجامعات رقم 18اعام 2018 وبقاء عضو هيئة التدريس تلقائيا لسن 75 لانه من غير المنطقي التخلّي عن الخبرات، في حين تعيد بعض الجامعات أشخاصًا آخرين بصفة «أستاذ شرف» مع مكتب دائم، وأحيانًا دون تقييم حقيقي للأداء.وما قدمه للجامعه
كما أن بعض الأصوات التي اسمعها تنتقد قرار الحكومة الإبقاء على من أمضوا ثلاثين عامًا في الخدمة بحجة البطالة، وتنتقد في الوقت نفسه بقاء أعضاء هيئة التدريس حتى سن الخامسة والسبعين للسبب ذاته. وهذا منطق غير مقبول؛ فالخبرات والتأهيل العالي لا يُكتسبان بسهولة، وخسارتهما تُلحق ضررًا مباشرًا بمؤسسات الدولة وجودة التعليم العالي.
ويُضاف إلى ذلك أن قانون التعليم العالي رقم (18) لسنة 2018 نفسه يُجيز التمديد لعضو هيئة التدريس حتى سن الخامسة والسبعين، إلا أن بعض الإدارات الجامعية تطبّق الفقرة التي تُنهي الخدمة عند السبعين، وتتجاهل الفقرة التي تسمح بالتمديد، وهو ما يفتح بابًا للاجتهاد والانتقائية في التطبيق.
وهنا يبرز سؤال قانوني جوهري:
إذا عُيّن عضو هيئة التدريس في ظل قانون يجيز بقاءه حتى سن الخامسة والسبعين، ثم عُدّل القانون لاحقًا وأنهى خدمته عند السبعين، فأيّ القانونين يُطبَّق عليه؟
ومن واقع ما أسمعه وأعرفه من الجامعات، فإن وقف نزيف إنهاء خدمات أعضاء هيئة التدريس عند سن السبعين، والإبقاء عليهم حتى سن الخامسة والسبعين برواتبهم الأساسية دون مكافآت الموازي أو حوافز نهاية خدمة أو ادخار، وتاجيل حقوق نهاية الخدمه والادخار لهم يشكّل حلًا وطنيًا رشيدًا يوفّر على الجامعات أموالًا طائلة، فضلًا عن أنهم لا يكلفون الضمان الاجتماعي أي التزامات إضافية.
وخلاصة القول فالاردن من الدول التي تحترم نفسها ولا تتخلّى عن عقولها وخبراتها وهي في ذروة عطائها، ولا تجعل العمر رقمًا جامدًا يتقدّم على الكفاءة والصحة والإنجاز. فالجامعات ليست مؤسسات تشغيل مؤقت، بل بيوت خبرة وصناعة معرفة، وأي قرار يُفرّط بخبراتها هو قرار مكلف وضرره طويل الأمد.
إن وقف إنهاء خدمات أعضاء هيئة التدريس عند سن السبعين، والإبقاء عليهم حتى سن الخامسة والسبعين ليس ترفًا ولا مجاملة، بل قرار وطني رشيد يحفظ المال العام، ويرفع جودة التعليم، ويصون كرامة الأكاديمي، ويؤكد أن الدولة تكافئ العطاء ولا تعاقبه.
وإننا نثق بأن دولة رئيس الوزراء الدكتور جعفر حسان، الذي بدأ خطوات إصلاحية شجاعة، قادر على استكمال هذا المسار بقرار يعيد الاعتبار للخبرة، ويوقف نزيف العقول، ويؤسس لمرحلة تُدار فيها الجامعات بالحكمة لا بالأرقام، وبالتقييم لا بالإقصاء، وبالعدل لا بالانتقائية.






