رؤية مرحلية أردنية–عربية لإعادة بناء غزة وتنمية الضفة الغربية بدعمٍ تركي–أوروبي–أميركي نحو قيام الدولة الفلسطينية

33 ثانية ago
رؤية مرحلية أردنية–عربية لإعادة بناء غزة وتنمية الضفة الغربية بدعمٍ تركي–أوروبي–أميركي نحو قيام الدولة الفلسطينية

م. سعيد بهاء المصري
المقدمة
جاءت التطورات الأخيرة في الإقليم، خصوصًا خطاب الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب أمام الكنيست، وما تلاه من انعقاد مؤتمر شرم الشيخ برئاسة مشتركة بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وترامب، لتكشف عن مرحلة انتقالية جديدة في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي تتسم بتناقضات حادة في المواقف والاتجاهات.
فعلى الرغم من أن ترامب لم يُعلن صراحة تأييده لقيام دولة فلسطينية، إلا أنه لم ينفِها أيضًا، مكتفيًا بطرحٍ ضبابي عن «إعمار غزة» و»اليوم التالي للحرب». هذا الغموض الأميركي المتعمّد خلق فراغًا سياسيًا في تحديد الموقف النهائي من الدولة الفلسطينية، وفتح الباب أمام محاولات عربية جادة لملء هذا الفراغ بمبادرة واقعية تقوم على توازنٍ بين متطلبات الأمن وإعادة الإعمار وحق الفلسطينيين في الدولة والسيادة.
في المقابل، برز محور عربي متماسك يضم الأردن ومصر والسعودية والإمارات والبحرين، يدفع بوضوح نحو تثبيت خيار الدولة الفلسطينية على كامل الأراضي المحتلة عام 1967 كحلٍّ نهائي، مستندًا إلى إجماعٍ عربي وإلى التزاماتٍ مالية وسياسية لإعادة بناء مؤسسات الحكم الفلسطيني وضمان وحدة الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد لاقى هذا المحور دعمًا تركيًا وقطريًا، من زاوية ضرورة إشراك الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها حماس، في العملية السياسية، بما يضمن انتقالًا تدريجيًا نحو سلطة وطنية موحدة ذات شرعية تمثيلية حقيقية.
وفي السياق نفسه، تشهد إسرائيل تحولات داخلية عميقة؛ فتصاعد الاحتجاجات الشعبية وضغوط المبعوثين الأميركيين والأوروبيين على الحكومة الإسرائيلية لإقرار خطة الانسحاب من غزة، أدّت إلى إعادة خلط الأوراق داخل الائتلاف الحاكم. تشير التقديرات إلى احتمالات تشكيل حكومة يمينية جديدة أقلّ تطرفًا، يقودها بنيامين نتنياهو نفسه، ولكن بعد تقليص نفوذ الأحزاب الدينية والقومية المتشددة التي عطّلت مسار التهدئة طيلة الأشهر الماضية. مثل هذا التغيير – إن تمّ – قد يفتح الباب أمام إعادة ضبط إيقاع القرار الإسرائيلي باتجاه تسويةٍ سياس…

تشكّل هذه المعادلة المزدوجة – الغموض الأميركي المقصود مقابل الحسم العربي المتنامي، والانقسام الداخلي الإسرائيلي مقابل التوافق الإقليمي النسبي – الإطار الواقعي الذي تنطلق منه هذه الورقة. فهي تسعى إلى تقديم رؤية مرحلية متكاملة للتعامل مع غزة والضفة الغربية معًا، ضمن مسار ثلاثي مترابط: أمني، سياسي، واقتصادي، يقود إلى بناء دولة فلسطينية قابلة للحياة، ويمنع تحويل إعادة الإعمار إلى أداةٍ لتفريغ القضية من مضمونها الوطني.
أولًا: المرحلة الأمنية تثبيت الاستقرار دون إدامة الانقسام
في غزة:
– ضبط الأمن وإعادة بناء الثقة: إنشاء جهاز شرطة مدنية فلسطينية بإشراف عربي مشترك (مصر والأردن)، يتسلم المعابر والمرافق العامة ويمنع الفوضى الداخلية والاقتتال الفصائلي.
– نزع السلاح الثقيل التدريجي: عبر آلية رقابة عربية–فلسطينية، بحيث يُجمّد السلاح الثقيل في مستودعات بإشراف لجنة ثلاثية (فلسطينية–مصرية–دولية) دون نزع كامل للسلاح المقاوم قبل استكمال المسار السياسي.
– وقف الاغتيالات والصدامات الداخلية: إعلان عفو مشروط للفصائل والمسلحين المحليين مقابل الالتزام بالانضباط الأمني وعدم حمل السلاح في المجال العام.
– إنشاء قوة حماية مشتركة للمنشآت الحيوية: تتكوّن من كوادر فلسطينية مدرّبة في مصر والأردن، تُمثل نواة للأمن الوطني الفلسطيني المستقبلي.
في الضفة الغربية:
– إلغاء الطابع الأمني للاقتصاد: إنهاء التنسيق الأمني الأحادي مع إسرائيل وتحويله إلى تنسيق ضمني من خلال غرفة أمن عربية–فلسطينية، تحفظ استقرار المدن الفلسطينية وتمنع التذرع الإسرائيلي بـ»الفراغ الأمني».
– حماية القرى والمناطق المهددة بالمصادرة: تشكيل لجان مدنية مساندة مدرّبة على إدارة الأزمات المحلية ومنع اقتحامات المستوطنين، بإشراف بعثة مراقبة دولية.
– دمج الأجهزة الأمنية ضمن قيادة موحدة: توحيد أجهزة الأمن الفلسطينية في الضفة وغزة تحت مجلس أمن وطني واحد يخضع للمساءلة البرلمانية والرئاسية.
ثانيًا: المرحلة السياسية توحيد المرجعية الفلسطينية واستعادة الشرعية الوطنية
وحدة الكيان السياسي الفلسطيني:
– إعادة تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية كمظلة جامعة، من خلال ضمّ الفصائل غير المنضوية سابقًا، وإعادة تشكيل مجلس وطني انتقالي يقرّ برنامج الدولة الفلسطينية على حدود 1967.
– تشكيل حكومة انتقالية تكنوقراطية: تُدير شؤون الضفة وغزة معًا وتشرف على إعادة بناء المؤسسات، على أن تتولى مصر والأردن والسعودية مراقبة التزامها بالمسار العربي.
– صياغة ميثاق وطني جديد للنضال السياسي: يؤكد أولوية الوسائل السياسية والقانونية والدبلوماسية في تحقيق الاستقلال، مع الإبقاء على المقاومة في إطارها الشرعي والدفاعي المنضبط.
الدور العربي والإقليمي:
– مأسسة الدور العربي: إنشاء «اللجنة العربية لرعاية الدولة الفلسطينية» تضم مصر، الأردن، السعودية، والإمارات، تعمل على متابعة تنفيذ مراحل الأمن والإعمار والسياسة تحت إشراف الأمم المتحدة.
– تنسيق مواقف تركيا وقطر وسوريا: إشراك هذه الدول في أطر الدعم الفني والسياسي للفصائل، ضمن مظلة عربية موحدة تمنع تعدد المرجعيات.
– تدويل الاعتراف بالدولة الفلسطينية: التحرك في الأمم المتحدة ومجلس الأمن لاستصدار قرار يكرّس عضوية فلسطين الكاملة، بالتوازي مع موجة اعترافات أوروبية وأميركية–لاتينية متتابعة.
تثبيت القدس كعاصمة سياسية وروحية:
– جعل القدس الشرقية محور الإجماع العربي والدولي، وإطلاق برنامج دعم مؤسسي لاقتصادها وسكانها ومؤسساتها الدينية والتعليمية، بحيث تبقى عنوان السيادة والرمزية الوطنية.
ثالثًا: المرحلة الاقتصادية بناء القدرة الفلسطينية على الحياة المستقلة
إعادة إعمار غزة:
– إنشاء صندوق إعمار عربي–دولي مشترك بإدارة مهنية مستقلة وشفافية مالية كاملة، يربط التمويل بمؤشرات حوكمة ومساءلة فلسطينية.
– بناء البنية التحتية الحيوية: شبكات الكهرباء والمياه والتحلية، الميناء والمطار، المناطق الصناعية، والمنازل المهدّمة، بطريقة تضمن التشغيل الذاتي وتقليل التبعية.
– تشجيع القطاع الخاص العربي: منح امتيازات للمستثمرين العرب لإنشاء مشاريع إنتاجية وصناعية في غزة، تربطها تجاريًا بالضفة عبر ممرّ آمن خاضع لإدارة فلسطينية–عربية.
تنمية الضفة الغربية:
– تحويل الضفة إلى قاعدة الإنتاج الوطني: إنشاء مناطق زراعية وصناعية متكاملة في جنين وطولكرم ونابلس والخليل، وربطها بالموانئ الأردنية عبر ممر اقتصادي بري.
– إصلاح منظومة الضرائب والاستثمار: تحرير الاقتصاد الفلسطيني من قيود بروتوكول باريس، وإنشاء نظام مصرفي مستقل تدريجيًا عن النظام الإسرائيلي.
– تمكين الشباب والتعليم المهني: إطلاق برامج تشغيل وتأهيل مهني بتمويل عربي وأوروبي، تهدف إلى بناء الكفاءات الوطنية اللازمة لإدارة مؤسسات الدولة المقبلة.
الربط الاقتصادي الفلسطيني–الأردني:
– ممر تجاري استراتيجي عبر الأغوار: لربط الضفة بالأسواق الإقليمية وفتح منافذ تصدير واستيراد حرة.
– تبادل الطاقة والمياه: تنفيذ مشاريع مشتركة لتحلية المياه وتوليد الطاقة المتجددة، بما يقلل الاعتماد على إسرائيل ويعزز السيادة الاقتصادية.
الخلاصة التنفيذية:
إنّ الفصل بين إعادة إعمار غزة وتنمية الضفة الغربية يعني عمليًا قبولًا بواقع سياسي يقسم الأرض والهوية الفلسطينية. لذلك فإن الرؤية المرحلية المتكاملة يجب أن تستند إلى وحدة المسارين الأمني والسياسي والاقتصادي، باعتبارهما طريقًا واحدًا نحو الدولة الفلسطينية المستقلة. الدور العربي هو الضامن الحقيقي لهذه الوحدة، ومصر والأردن والسعودية والإمارات يمتلكون اليوم أدوات التأثير الفاعل لتأمين هذا المسار ومنع أي التفاف عليه.
التوصيات العامة:
1. ربط أي تمويل دولي لإعمار غزة بخطة تنمية متوازية في الضفة الغربية.
2. إعادة بناء المرجعية الفلسطينية الجامعة عبر حكومة انتقالية وميثاق وطني جديد.
3. توحيد الأجهزة الأمنية تحت قيادة وطنية بإشراف عربي مشترك.
4. تدويل الاعتراف بالدولة الفلسطينية من خلال تحرك منسق عربي–دولي.
5. إطلاق مشروع اقتصادي فلسطيني–أردني يضمن السيادة الاقتصادية المستقبلية.