اعترافات مدرس جامعي (مسرحية مونودراما)

دقيقة واحدة ago
اعترافات مدرس جامعي (مسرحية مونودراما)

د. محمد عبد الله القواسمة

مكتب في منزل، خلفه نافذة مفتوحة. فوق المكتب جهاز حاسوب وأقلام وأوراق، بجانبه طاولة قصيرة، ينتصب فوقها إطار صغير فيه صورة لعروسين. أمام المكتب كنبتان.

الشخصية

رجل في الثلاثين من العمر. مدرس جامعي.

(يدخل الرجل. يتأبط أوراقًا، يلقيها على المكتب. يقف أمام المكتب بحزن)

اليوم غدوت وحيدًا، لا زوجة ولا أولاد ولا عمل! بالأمس طردت من عملي في الجامعة، وزوجتي تركت البيت وذهبت إلى أهلها. لا أحد غيري في البيت. كان يوم أمس نحسًا من أوله، منذ قابلت تلك العجوز. من أين جاءت؟ كيف ظهرت لي فجأة؟ أول مرة تقابلني، وأين؟ بمدخل الجامعة. أشارت إلي، التفت حولي، ربما تشير إلى غيري، أكدت أنها تريدني أنا بالذات.

قالت: “أوصيك يا ابني بعدم دخول الجامعة هذا اليوم”

لماذا يا حاجة؟ محاضرة واحدة أؤديها وأعود إلى البيت، لن أمكث بعدها ولو دقيقة.

قالت: “لمصيبة يا ابني في هذه المحاضرة. ستقول فيها الحقيقة على غير عادتك، وسيكون فيها عذابك”.

اتق الله يا حاجة كل ما سأقوله في المحاضرة يدور حول النحو، وهو علم كله حقائق لا مجال للكذب والصدق فيها.

ضحكت وقالت:”محاضرتك ليست في النحو أو الصرف بل فيما يجري؟”

لا يا حاجة حتى ولو كانت في السياسة، ماذا يمكن أن يحدث؟ أنا لا أؤمن بمن يدّعي الغيب.

“لا يا ابني أنا لا أدّعي معرفة الغيب ولكن إحساسًا انتابني عندما رأيتك بأن شيئًا سيئًا سيصيبك، وشعرت أن من واجبي أن أنقله إليك. وإحساسي لا يخيب غالبًا. على كل حال لك أن تفعل ما تشاء. لقد حذرتك”

تركتها، وأنا أسخر منها. يبدو أن السخرية من الناس الذين على باب الله كثيرًا ما تؤدي إلى المهالك. وهذا ما حدث صباح أمس: وجدت في القاعة التي سألقي فيها محاضرتي الدكتور صادق وطلابه، كان الدكتور قد أنهى محاضرته للتو، وتأخر وهو يلملم أوراقه وأدواته. بينما اندفع طلابي في فوضى وصياح إلى القاعة انتظرت بالباب حتى يخرج. عند خروجه صافحني وهو يقول:

“دهمني الوقت. ما إن أبدأ بقضية أدبية أو نقدية حتى أنسى نفسي. أعتذر عن تأخري وعن هذه الفوضى التي سببتها في القاعة”.

(يتحرك في المكتب)

دخلت القاعة تناهى إلى أذني بعض تعليقات الطلاب الساخرة على الدكتور صادق:

“إنسان أول برتبة مدرس جامعي

لم نر أقصر منه بين دكاترة الجامعة.

حقيبته أطول منه.

شبه نابليون بونابرت”.

ألقيت حقيبتي على الطاولة، وقفت أراقب الوجوه بغيظ، كأني الحجاج في مسجد الكوفة. لم هذي التعليقات السقيمة على علامة مثل الدكتور صادق؟ عمّ الصمت. يبدو أن الدكتور صادق لا يستخدم تقنية صنع الخوف. أذكر أن طالبًا ضحك في محاضرتي، أشرت إليه أن يقف فوقف، أعلمته أنه راسب في المادة لهذا الفصل حتى ولو كان من المتفوقين، وعليه أن يتحسس رأسه. لم أر ذلك الطالب في المحاضرة التالية، وفي الفصل كله. ثم شققت الصمت، وخطبت بهم خطبتي العصماء: الدكتور صادق هذا الذي تسخرون منه وتستهزئون أفضل أستاذ عرفته الجامعة، وأنبل إنسان عرفته في حياتي، إنه أفضلنا جميعًا علما ًوخلقاً. هذا الذي ترونه ضئيل الجسم له أبحاث كثيرة ومؤلفات بعضها مقرر في هذه الجامعة وفي غيرها من الجامعات. إنه رجل علم يعمل بصمت دون اهتمام بأي منصب أو رتبة. ظلمته الجامعة كما ظلمتموه أنتم حين سخرتم منه. بدأ ظلمه عندما لم تعادل وزارة التعليم العالي شهادته الدكتوراه بحجة أن دراسته ليست بالانتظام. وكأن دراسة حياة شاعر وأدبه تحتاج إلى انتظام، كما أن شهادته من جامعة تعترف بها الوزارة، وهي جامعة أنشئت قبل اتفاقيات سايكس بيكو التي قسمت عالمنا العربي، وقبل قيام جامعة الدول العربية. لقد اشترطت الوزارة لتعادل شهادته أن يدرس تسع ساعات معتمدة في جامعة رسمية. درس الرجل تسع ساعات وقدم أبحاثًا محكمة وعودلت شهادته، ولكن بعد كل هذا حدث ما يستحق السخرية والاستهجان بأن الجامعة لم تحتسب شهادته لا للراتب ولا للترقية بل لم ترد على طلبه، وظل برتبة مدرس. الدكتور صادق هو الوحيد الذي أعرفه لم يعين بالوساطة أو الرشوة. وزل لساني زلة هي التي جرت علي ما أعانيه الآن إذ قلت حتى أنا كان تعييني من فوق أو كما يقال بالبارشوت. لم أكن أرغب في فضح نفسي أكثر من ذلك لكن عندما ضجت القاعة بالسؤال: “وأنت كيف تعينت يا أستاذ؟ استطردت في سرد قصة تعييني في الجامعة، وهي ربما تلك الحقيقة التي تكلمت عليها تلك العجوز التي قابلتني بمدخل الجامعة. نعم رشوت رئيس الجامعة نفسه بعجل سمين، اتصل صديق لي من المتنفذين برئيس الجامعة، فوافق على تعييني، واشترط أن أقدم له هدية تليق به، وحبذا، كما أعلمني الصديق، لو كانت الهدية عجلًا. هكذا كان، فبعد أن صدر قرار تعييني أرسلت إليه عجلاً بالمواصفات التي اشترطها. استقبله بالترحاب، وضمه إلى عجول مزرعته. قلت لهم: هذي هي الحقيقة، وهنالك حقائق أخرى لا تعلمونها عن الشهادات المزورة والفساد في الابتعاث والترقيات وشراء الأبحاث. لا أدري لماذا بحت لهم بأسرار الجامعة، كان همي أن أبين وسط هذا الواقع المتهافت عظمة هذا الرجل الذي سخروا منه.

(يرتمي على كنبة)

حدث ما توقعته تلك العجوز: استدعاني رئيس الجامعة. كان أمامه عند استقبالي تقرير عن المحاضرة التي ألقيتها. كثيرون يكتبون التقارير سواء من الطلاب أم من المدرسين. بادرني:

“خذ هذا الكتاب اقرأه وتوكل على الله”

أدرك أن هذا التعبير “توكل على الله” وأمثاله: سبحان الله، والله أكبر، وإن شاء الله تعابير تستخدم في أغلب الأحيان لتكون مقدمة للقتل، أو الظلم، أو خراب البيت.

(يتناول الكتاب من بين الأوراق. يقرأ)

قرر مجلس عمداء جامعة السراب في جلسته رقم 36/201 المنعقدة في 14 تموز 2016 إنهاء خدمتك من الجامعة وفصلك استنادًا إلى الفقرة(ج) من المادة 45 من نظام الهيئة التدريسية المعمول به في الجامعة، التي تنص على فصل عضو هيئة التدريس إذا أساء إلى الجامعة، أو إلى العاملين فيها”.

فصلت من الجامعة لست أول من فصل. أساتذة كثيرون فصلوا، أو هددوا بالفصل أو السجن لمواقفهم المناهضة للظلم، أو لآرائهم التي تعارض السائد. ألا يعلم رؤساء الجامعات والمسؤولون عن التعليم العالي في بلادنا أن الجامعات ليست بنايات شاهقة ومرافق فخمة وخدمات راقية بل أساتذة ومفكرون ومبدعون فهؤلاء هم من يمنح الجامعات قيمتها ويضمن لها تفوقها وشهرتها بما يقدمونه من علم نافع، وأدب رفيع، وفن جميل، ورأي سديد.

(يرمي الكتاب على الطاولة. يقف متكئًا على طرف المكتب)

لم أحتمل رئيس الجامعة عندما وقف وهو يشير بيده إلي بالخروج. خاطبته بجرأة لا أعلم من أين تسربت إلي: لكن حضرة الرئيس ما ذكرته في محاضرتي هو الحقيقة، لا تستطيع أن تنكرها، ويجب إظهارها إلى الحياة على ما فيها من صدمة. فالصدمة أحيانًا وسيلة من وسائل الشفاء والاستيقاظ. ونحن في الجامعة قدوة للطلاب، والطلاب يقدرون أساتذتهم من خلال صدق الفعل وقول الحقيقة. قاطعني وهو يقول بابتسامة ماكرة:” لا يقدم على هذه الأقوال ذو عقل. كيف ظهرت في طريقي؟ من أين بزغت لي؟ أنت أسوأ مقلب تعرضت له في حياتي. على كل حال ما يكون موقفك لو أنكرت ما قلته عن قصة العجل، وشكوتك إلى القضاء؟” لا تستطيع يا حضرة الرئيس كثيرون رأوك وأنت تتسلم العجل. كلهم سيشهدون عليك، حتى جيرانك الذين ساعدوا في إنزال العجل من السيارة لن ينكروا الحقيقة.

خرس لحظة لكنه عاد يسأل:” لكن كيف تتهم زملاءك بالفساد؟ إنهم يستطيعون مقاضاتك للإساءة إليهم والطعن بشخصياتهم” لا يستطيعون يا حضرة الرئيس فالدلائل واضحة لا تحتاج إلى براهين أو شهود، كما أنهم بكل بساطة لا ينكرون ذلك ويعتبرونه نوعًا من الاجتهاد، والتحلي بالدينامكية وروح الفريق. ولا يغيب عن بال عطوفتكم سماحكم بوجود مركز أمام الجامعة يعد الأبحاث والدراسات لمن يرغب من الأساتذة والطلاب بشرائها، من أجل نشرها في مجلات محكمة، تفيد الأكاديميين في الترقيات، أو لتقديمها مشاريع تخرج للطلاب. هذه هي الحقيقة المرّة أيها الرئيس. نحن أساتذة الجامعات لسنا على مستوى عال من التعليم والخلق السليم. وتريدون إصلاح التعليم، ووقف العنف في الجامعات؟!

خرجت من عنده وأنا أتساءل: هل كنت غبيًّا، هل كنت مجنونًا أو معتوهًا عندما أبحت للطلبة أن يدخلوا حقيبتي وحقائب زملائي السرية؟

(يتحرك نحو الطاولة، ويقف بجانبها)

وزاد الطين بله ما جرى في البيت. قرأت زوجتي الكتاب. ولولت:” يا فرحتي طردوك من الجامعة! في طرفة عين صرت عاطلاً عن العمل. لماذا لم تعتذر من الرئيس، وتعلن أن ما حدث إنما هو حديث عن رئيس جامعة وأساتذة ليسوا من هذي البلاد؟ قل أي شيء ينقذ رأسك، وينقذنا من الفقر والتشرد” كيف أتراجع عما قلت؟ لماذا لا أكون صادقًا مع نفسي ومجتمعي. الحق أحق أن يقال: لقد رشوت رئيس الجامعة بعجل، وضميري لم يكن ليرتاح حتى اعترفت بالحقيقة. لا أريد أن أعيش في عذاب الضمير بأن أقول للطلاب أن التعليم في بلادنا بأحسن حال، وأننا نحن الأكاديميين، ملائكة الزمان على علم عميق، وخلق قويم.

(ينتبه إلى غراب يحط على النافذة)

تفضل أيها الغراب. أنا لا أتشاءم عند رؤيتك. مع أني أعتبرك كما يعتبرك اليونانيون رمزًا للقدر التعيس. تفضل أنا وأنت وحدنا في هذا المكتب لكنك لست مثلي مكبلًا بالقيود والأغلال، مهددًا بما يحيط بك من طيور. أنت تنعم بالحرية، تتنقل حيث تشاء، لا أحد يستطيع أن يعكر مزاجك. ادخل إلى مكتبي، اجلس أنى شئت، ستحل ضيفًا عزيزًا علي، لا أحب أن تظل واقفًا على النافذة فاتحًا عينيك بشرود.

(يقترب من الغراب. يهرب إلى الداخل. يطوف بالمكتب، يصطدم بالصورة التي على الطاولة يسقطها، فيتكسر زجاجها. ثم يخرج من النافذة)

أول مرة أرى طائراً يهرب إلى الداخل لا إلى الخارج. على كل حال لن أغضب على ما فعلت. تأخرت كثيراً أيها الغراب حتى تقوم بحركتك هذه، أو بطوافك في مكتبي. فتنظف حيطانه وزواياه مما علق به أو بما فيه من صور لا تعني غير التقلب والتلون والانسحاب.

(يجمع ما تناثر من زجاج ويلتقط الصورة، ينظر فيها قبل أن يلقيها من النافذة)

هي صورة لذكريات مرت بي مع تلك المخلوقة زوجتي. لن تمكث طويلًا في العقل ومصيرها إلى الزوال. تمامًا مثل قولها: “لن أعود إلى البيت حتى تعود إلى عملك. لقد تزوجتك وأنت دكتور جامعة وليس دكتور مفصول من عمله.”

في هذا الوقت العصيب تركتني وذهبت إلى عند أمها. ماذا ستفعل لها أمها؟ لتذهب إلى الجحيم هي وأمها!! إني في غاية السعادة أن كشف طردي من الجامعة ما في عقل هذه المرأة وقلبها.

(يتجه نحو الحاسوب، يفتحه. ينتقل إلى موقع إخباري. يرى صورته)

كيف جاءت هذه الصورة في هذا المكان؟! من أنا حتى تنشغل بي المواقع الإخبارية؟ أنا لست فنانًا كبيرًا، ولا نجم أرب أيدول، ولا رئيس دولة. أنا مجرد مدرس في جامعة، بل كنت مدرسًا واليوم أصبحت لا شيء. وأصبح الملك لله.

(يقرأ في الموقع نفسه ما كتب تحت الصورة)

مظاهرات حاشدة قام بها طلاب جامعة السراب بعد أن أقدمت الجامعة على فصل الدكتور تيسير سليم لمخالفته تعاليم الجامعة. وتقول الأنباء أن الدكتور اتهم الجامعة بالفساد، ولم يسلم زملاءه من كلامه عندما كشف عن كثير من خطاياهم في التدريس والبحث والإساءة للطلاب والجامعة. وتدرس إدارة الجامعة تقديم شكوى على الدكتور تيسير لأنه خالف قوانين الجامعة وأنظمتها وتعليماتها، وأضر بسلامة المجتمع وأمنه حين انهال على زملائه في أثناء محاضرة له بالشتائم.

أرحب بهذه الشكوى. لن أخسر شيئًا بل سأربح سمعتي وذاتي بأني تحديت مقرًّا للفساد والظلم وفضحته. ما كانت جامعاتنا على هذه الشاكلة لو أن أساتذتها كلهم على مستوى رفيع من الخلق والعلم.

(يقرأ في موقع إخباري آخر)

“مظاهرات في جامعة “السراب”

قام طلبة جامعة السراب بالتظاهر أمام رئاسة الجامعة احتجاجاً على فصل الدكتور تيسير سليم، وأعلنوا أنهم سيستمرون بالتظاهر حتى عودة الدكتور إلى عمله. وصرح أحد طلاب الدكتور:” إن الدكتور تيسير لم يخطئ وكان صريحاً معنا في تلك المحاضرة وهو يحدثنا عما يجري وراء كواليس الجامعة، والحقيقة أن أساتذتنا من البشر وليسوا من عالم الملائكة. وقد اعتبرنا حديث أستاذنا بادرة جريئة لمصارحة الطلاب بحقائق الحياة، وتقديم الواقع كما هو دون رتوش؛ فهي الطريقة المناسبة لتغيير الحياة نحو الأفضل” كما أضاف الطالب قائلًا:” للحقيقة فأن الدكتور تيسير أستاذ قدير، وضليع في تخصصه، وذو خلق عظيم، وتواضع جم. والأفضل للجامعة أن تنتبه إلى إصلاح التعليم، وإلى الاهتمام بالبنية التحتية للجامعة لا إلى فصل الدكاترة الأكفياء”.

(تدمع عيناه من التأثر)

هكذا فإن الطلبة متعطشون إلى الصدق والصراحة والتواضع، متعطشون إلى مدرس يكون قدوتهم في فضائل الأعمال والأقوال لا إلى مدرس كأنه شريط آلي، أو من عالم الشياطين.

(ينتقل إلى موقع إخباري آخر)

علق أحد المدرسين على ما قاله الدكتور تيسير سليم في محاضرته المثيرة:” إن الزميل كان مخطئاً في حديثه المكشوف أمام الطلاب. الكل يعلم بوجود ظواهر فساد وسوء إدارة في الجامعات، لكن ليس كل ما يعرف يقال. وعلى ذلك فإنه يستحق الطرد من الجامعة. أما رئيس الجامعة فقال إن ما تفوه به الزميل خال من الصحة، وأكاذيب أملتها عليه محبته في الظهور والمشاكسة.

إن الظهور والمشاكسة جديران أيها الرئيس بالتقدير إذا كانا يؤديان إلى القضاء على الفساد والتخلف. ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ويأتيك بالأخبار من لم تزود

(يفتح موقع إخباري آخر. يقرأ منه)

تقرير مصور

امتدت المظاهرات التي شهدتها جامعة السراب بسبب فصل مدرس إلى الجامعات في البلد كله، وعلقت بعض الجامعات الدوام فيها. وعلم من مصادرنا أن ما حدث للدكتور المفصول قد أثر على حياته العائلية؛ إذ أقدمت زوجته على خلعه لاضطرابه العقلي و النفسي.”

أنا مجنون. أصبحت مجنونًا! الذي يراجع نفسه ومسيرته، ويعترف بأخطائه وبالحقائق من حوله مجنون. أما الذين يغشون ويزورون ويرتشون فهؤلاء عقلاء وأنبياء.

(يفتح موقعاً إخبارياً آخر. يقرأ باهتمام)

توقيف رئيس جامعة السراب ونوابه

أكد مصدر حكومي لـموقعنا أن مدعي عام هيئة مكافحة الفساد أصدر ظهر اليوم قرارا بتوقيف رئيس جامعة السراب ونوابه على ذمة التحقيق بشبهات فساد، وتجاوزات مالية وإدارية وقعت في الجامعة. وأكد المصدر أن الموقوفين تم نقلهم الى السجن.

ها هي نهايتك أيها الرئيس أنت ونوابك الطغاة. تحقيق في تهم فساد وسرقات، ومن ثم إلى السجن المؤبد. ما كان يجب أن تجمع بين التدريس وتربية العجول. فالعلم ليس له علاقة بالعجول بل بالعقول.

(يضحك)

(رن الهاتف الخلوي. يرى ما يشير إلى رسالة. يتصفح الرسالة. يقرأ منها)

“لا يليق أن نتركك في الساحة وحدك. عار على الأكاديميين كلهم في جامعات الوطن إذا سكتوا عن ظلم يحيط بأحد مهما كان أصله ومنبته، وكيف إذا كان عضو هيئة تدريس في إحدى الجامعات؛ لهذا يسعدني أن أبلغك بأني قدمت اليوم استقالتي من الجامعة تجاوبًا مع مواقفك الجريئة.

صادق”

لماذا تفعل هذا أيها الرجل؟ سيغلقون في وجهك أبواب التعيين في الجامعات. إني مطلع على ظروفك فأنت تحتاج إلى الوظيفة؛ فعليك مسؤوليات تجاه والدك المريض وشقيقاتك اللائي بعضهن بالجامعة وبعضهن ما زلن في مقاعد المدرسة. ما كان يجب أن تفعل هذا. أنا لا أستحق أي تضحية من أحد. كل ما فعلته وأراحني كثيرًا أني اعترفت بفسادي وفساد الواقع، وفي هذا أمل في التغيير نحو الأفضل والأجمل.

(يبتسم)

على كل حال إذا ما عزمت على الاستمرار في الاستقالة سنبحث معاً عن جامعة أقل فسادًا من هذه الجامعة. ربما نجدها وإلا سنحاول أن نكون رعاة أغنام، أو بائعي خضراوات وفواكه، أو سائقي تاكسي. ذلك أفضل من خداع أنفسنا ومجتمعاتنا.

(رن جرس هاتفه الخلوي. يُبقي الصوت عاليًا. يسمع صوت الزوجة بدلع)

لم ترد على مكالماتي. لم تتصل بي. كأنك كنت تنتظر أن أذهب لزيارة أمي حتى لا تهتم بي، ولا تسأل عني. أعرف أني، ربما، قد أكون أثقلت عليك في كلامي على ما حدث لك في الجامعة لكني لم أكن أفكر إلا في مصلحتك ومصلحة حبنا. على كل حال لننس ما جرى بيننا، فما زلت أحبك، وأنتظر مجيئك حتى تعود بي إلى البيت. وإذا لم تأت لاصطحابي سأظل أنتظر، فأنا لن أعود وحدي.

(يغلق الخط)

تريدني أن أذهب لاسترجاعها من بيت أهلها؟ كيف يكون هذا يا بنت الناس؟ لقد خرجت بمحض إرادتك وعنفتني دون مبرر. لم تفهمي هذا الذي تزوجته كم تعذبه الإساءة من محب أو من مدعي الحب.

(يقف محتدًّا)

أين أنت أيها الغراب؟ لماذا لا تعود إلى النافذة؟ كم أرغب في أن أراك تغلقها بلونك الأسود! أريد أن أراك كي أهتدي إلى القرار الذي سأتخذه، وأتبين الطريق التي سأسير فيها، فلونك الأسود يشير إلى أن لا مفر لنا من مواجهة مصيرنا، الذي يغرق في البؤس. وأنت، أيتها العجوز السادرة في غياهب الحياة، أين أنت؟ لماذا لا تظهرين الآن؟ فتحدثيني عن المستقبل، عن الظلام الذي تنبأت أن أسير فيه. أين أنت أيتها العجوز؟ أحتاج إليك كي تُعلميني بإحساسك هذا الذي لا يخيب.

أنت وحيد الآن، لن يظهر في حياتك لا غراب ولا عجوز، كل ما تقوم به ليس مجافيًا هذا الواقع المتردي.

(يفتح نافذة الرسائل في جهازه الخلوي. يرسل بعد أن يكتب)

أيتها المرأة، انتظري عند أهلك حتى تأكلك الغربان.