بقلم د.خليل الرفوع
بل نشوة من العطر والغرام، وغابة من العشق والتين والزيتون، وفيض من الصبر والرجولة والخُلق الوعْر، ومروج ورد وحِنطة، وسِياج من الياسمين.
لم يكن ظلا للعابرين الذين امتشقوا له سوادَ الليل وفحيحَ نفوسهم فأمكنَ منهم، هو شرف أُسِس على جُمجمة ميشع، وذؤابة عمّون، وصخرة الصحراء، ورماح البلقاء، ورصاصة جندي بهي السُّمرة أقسم على الله فأبَرَّه فأضحى مع طلوع المنايا أميرَ العاشقين.
وطني مأوًى: عليه وفيه تتلاقى أحلام من يطرقون سماءه: ليكون غمامة تغيث نداءهم الخفي ونجواهم ذاتَ غربة واغتراب: هنا خيمة، فادخلوها بسلام لتكون تأويل رؤيا أولئك الذين رأوا في الغياب سنين يوسف العجاف، وأن الموت فيه غربالٌ لمن أراد السوء والمكر والغدر. كما تاهَ فيه المرجفون أربعين ضياعًا، وغرقوا في سِقط الْلِوى وفجاج رمضائه.
هذا وطن من النار وأخاديد من جهنم لكل أفَّاك يتيه في جحيمه ثم يتخذه معبرًا للجحود أو مُدَّخَلا للنكث.
نور ونار، أقحوان وحنظل، خضرة بحجم الفجر وحمرة بحجم الغسق، هو الآن كما البدايات، عشاق يجيئونه على تسبيحة السَّحر ويرحلون في ضحاه على سجادة الغسق، وما زال يغني على رجع تيجان الكرامة عندما قرؤوا على قلاع الأرض آيات الفاتحين.
أيهذا الوطن ظللْ عشقنا بسيوف مؤتة وخيول اليرموك، وقد نادى أبناء الحرب بعد أن قطعوا دروبَ الأمة، وتراكموا على الأسنة في الوغى: وقوفًا أيها الصحب على ناصية الشهادة فقد صبّحنا النصرُ بُكرة وعشيا فامضوا من الأردن إلى الدنيا أفواجًا كي تعلموها الرحمة والعزة والقراءة باسم الله. فتفجر الموت الأحمر في شقوق الأردن شرَفًا إلهيًّا ودعاء معتقا برائحة الجنة .
فابسطْ على أرواحنا أرجوان الشهداء، وريحان فتية الكهف، فستبقى في حنايا العشق: شِعبَ بني هاشم والصفا والمروة وبيت الله المعمور.
لن تجف عروق زهوره، ولن تذبل عناقيد كرومه، وسنبقى نتلو على أجنحته سور الحب والولاء وآية الكرسي. ولن تهدَّ مناكبك المعاول، ولن ينجاب سحر غرامك، ولن تنبت إلا ربيعًا من الأماني لكل الأوفياء، وخريفا من المنايا لمن استعصى على الوفاء لك وحدك يا ابن السماء .
هو وطن اللظى على كل غاز ودخيل، فله قناديلُ الضحى والنفوسُ العطاش إلى نحر القهر، وله صباحات السيوف والسنابل والعِناد الوَعر وطِيب نفوس زكية تعاف العار. فلن يُستباح وطن من نقع ورصاص وثأر وغضب، سيبقى مأوى الصهيل وشذا الشهادة وكبرياء الذين دقُّوا بحُمرة عيونهم عطرَ مِنْشم وأقسموا ألا يُمس طهرُه .