الرواية والقارئ

25 يوليو 2025
الرواية والقارئ

د. محمد عبد الله القواسمة

الرواية أقرب الفنون إلى الناس على مختلف طبقاتهم
وثقافاتهم، وميولهم ووظائفهم، فهي تقرأ من الموظف والسياسي والطبيب والمعلم، والمهندس والفيلسوف، وربات البيوت، والعمال، والموظفين. وساعدت التكنولوجيا الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي على اتساع رقعة الاهتمام بالرواية، ليس بقراءتها فحسب، بل بكتابتها أيضًا. إذ رأينا من كُتاب الرواية الطبيب والمهندس والعامل وناشر الكتب، بل إن بعض الشعراء والمسرحيين وكتاب المقالات تحولوا إلى ممارسة الكتابة الروائية.

إن اهتمام الناس بالرواية يتجاوب مع بنائها الحواري، الذي يتناول شريحة واسعة من المجتمع، وتجتمع في عالمها الأجناس الكتابية، والأساليب المتنوعة، وتتصارع فيها الأفكار، التي تهم المجتمع سواء أكانت ثقافية أم نفسية أم فلسفية أم اقتصادية. كما يتوازى عالمها التخييلي مع عالم الواقع لكنه أكثر حيوية، وجمالًا، وكثافة، وتركيزًا.

إن الرواية ليست فن الخاصة، أو فن النخبة كما قد يقول البعض، بل هي فن الشعب كافة. ولا يعني قولنا بشعبية الرواية أنها فن هابط وساذج بل هي فن يتناول القطاع الواسع من المجتمع ليعبر عن هموم المجتمع كله، ويرسم معالم مستقبله. وهذا يتضح من فهم الناقد الروسي ميخائيل باختين بأن الرواية فن يعبر عن الثقافة الشعبية وقيم المجتمع الحديث، ويقترب هذا الفهم من رؤية الناقد المجري لوكاتش بأن الرواية تحدرت إلينا من الملحمة، ذلك الفن الشعبي الذي عرفته الحضارات السابقة فالحضارة اليونانية -على سبيل المثال-عرفت «الإلياذة» و»الأوديسا» والرومانية «الأنيادة» والهندية «المهابهاراتا»، والفارسية «الشاهنامة». وأرجع كثيرون من المفكرين والنقاد العرب نشأة فن الرواية إلى تراثهم الشعبي إلى «ألف ليلة وليلة»، والسير الشعبية، مثل: «سيرة بني هلال»، و»سيرة عنترة بن شداد»، و»سيرة الزير سالم»، و»الأميرة ذات الهمة» وغيرها.

على ضوء هذا الفهم للرواية وعلاقتها بالمجتمع نستطيع أن نتبين علاقتها بالقراء، فمن البدهي أن الإقبال على قراءتها يتفاوت من رواية إلى أخرى، فبعض الروايات تحظى بنصيب كبير من القراء وبعضها بنصيب أقل، بل إن بعضها يكاد يطويها النسيان والإهمال. وهذا يطرح سؤالًا جوهريًا عن الأسباب التي تجعل بعض الروايات أكثر من غيرها قراءة واهتمامًا.

لعل إقبال الناس على قراءة الروايات تعود إلى أسباب كثيرة، منها ما يعود إلى الرواية نفسها، ومنها إلى الكاتب، ومنها إلى البيئة المحيطة. فمن الأسباب التي تعود إلى الرواية نجد أن روايات تحظى بمقروئية عالية؛ لأنها تتناول موضوعات تتصل بما يهتم به الناس، مثل الموضوعات التي تتناول قضايا دينية وسياسية وتاريخية، أو ما يعايشونه من أحداث، مثلما حدث عندما اجتازت كورونا 19 العالم، فصار الناس يبحثون عن الروايات التي تتحدث عن الأوبئة. وفي فترة هزيمة حزيران عام 67 نالت الروايات التي تناولت موضوع الحرب، وما يتصل بها إقبالًا كبيرًا، مثل تلك الروايات العربية والأجنبية التي تحدثت عن المقاومة وأبطالها.

أما من الأسباب التي تعود إلى الكاتب فرأينا القراء يتقصدون الاهتمام بكُتّاب بعينهم، ممن يتبوءون مراكز سياسية واجتماعية واقتصادية وعلمية، أو أن يكونوا قد تعرضوا للسجن، أو النفي، أو محاولة قتل، أو غيبهم الموت لأسباب غير عادية، مثل الانتحار، أو الاغتيال، أو القتل.

أما بالنسبة إلى الأسباب البيئية المحيطة ففي كثير من الأحيان، يندفع الناس لقراءة الروايات تحت تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، وأنواع الدعاية المبهرة، وطرق التسويق المتنوعة. وما تقوم به الهيئات والروابط والاتحادات المختلفة، التي تمنح الجوائز وتقيم الندوات والمؤتمرات حول روايات بعينها، أو تلك التي تتفق وأهدافها وسياساتها.

أما عن النقد الحقيقي فغاب تحت وطأة التخلف والثقافة السائدة، وحل محله نقد المؤسسات التي تقوم على مراعاة كل شيء عدا الإبداع؛ فلا يوجد غير مقاييس الشللية والجهوية والتحزبية، ومقاييس المجاملة، والحك التي تقوم على نظرية «حك لي أحك لك» مع استثناءات قليلة هنا وهناك عند بعض النقاد الأكاديميين، الذين يتحركون بصعوبة وسط هذا الاضطراب، الذي يعم حياتنا الثقافية والفكرية والإبداعية. كما أن بعض القراء على الرغم من غياب النقد الحقيقي يتبين لهم رداءة الروايات التي حصلوا عليها، فيلقونها في زوايا مكتباتهم، مع إحساسهم بالخديعة، ودفع المال في روايات ابتاعوها بتأثير الصحافة ووسائل الإعلام المضللة، وإطراء المؤسسات التي لا تراعي مقاييس الإبداع الروائي.

استنادًا إلى ما سبق فإن كثرة القراء لرواية ما لا يدل على أنها متميزة، تضيف جديدًا إلى الحياة وإلى الجنس الروائي، بل إن روايات كثيرة كثير قراؤها هلامية الفكر، ركيكة البناء أقرب إلى الألغاز، وحكايات العجائز، والوصايا الدينية، وقصص إنسان الكهف.