السوق أبو مرشد… مدرسة الحياة
من يعيدنا إلى ذلك الزمن
في أحد أيام الطفولة، قال لي أبي جملة ظلّت ترنّ في أذني حتى اليوم:
“السوق يا بُني… أبو مرشد.”
قلت له بدهشة الصغار: كيف لسوقٍ صاخب أن يكون مرشدًا؟
ابتسم أبي، تلك الابتسامة المليئة بالحكمة، وقال: “ستفهم عندما تراه… وتنتبه لما فيه.”
وفي صباح اليوم التالي، أخذني أبي إلى السوق.
دخلنا وأنا ما زلت أظن أنني ذاهب إلى مكان للبيع والشراء فقط.
لكنني وجدتني أدخل مدرسة من نوع مختلف؛ لا سبورة فيها، ولا معلم واقف، بل الحياة بأكملها تمشي على قدمين.
رأيت رجالًا يصافحون بعضهم بثقة، يتعاملون بكلمة، ويبيعون بابتسامة، ويشترون بحسن نية.
رأيت الاحترام في الصوت، والتقدير في الموقف، والصبر في التفاوض.
رأيت من يغضب ويكظم، ومن يُخطئ ويعتذر، ومن يربح ولا يطغى.
هناك، فهمت ما قصده أبي. السوق “أبو مرشد”… لأن من يُحسن التأمل فيه، يُدرك أن الحياة ليست فقط ما يُقال، بل ما يُفعل.
السوق يعلّمك الصدق، لأن الكذب فيه يُقصيك.
ويعلّمك الصبر، لأن الزبون لا يُجبر.
ويعلّمك الاحترام، لأنك لن تبقى فيه إن أسأت.
كانت تلك أولى دروسي في الحياة العملية والكرامة الاجتماعية، وأول مرة أعلم فيها أن الحكمة لا تُقال دائمًا، بل تُعاش وتُرى…