فكرة “الأمة” بين الحنين العاطفي وواقع الدولة الوطنية

13 يوليو 2025
فكرة “الأمة” بين الحنين العاطفي وواقع الدولة الوطنية

بقلم: د. قاسم العمرو

نشر د. عاصم منصور مؤخرًا منشورًا على حسابه فحمل نبرة وجدانية عالية تجاه مفهوم “الأمة”، معتبرًا أن هذا المفهوم الذي كان يحمل في الماضي طموحًا جمعيًا يتجاوز الحدود القُطرية، قد تحوّل اليوم إلى شعار يُستدعى في الخطب ويُعلّق جانبًا حين تتعارض متطلباته مع أولويات الدولة القُطرية. وأشار إلى أن العدوان الأخير على أمتنا كشف هشاشة هذا المفهوم، حين ظل الفعل السياسي مرهونًا بالمصالح الضيقة لا بالحلم الجمعي.

هذا الخطاب، رغم ما فيه من صدق شعوري، يُعيد إنتاج نظرة أممية مثالية تتقاطع مع الأدبيات الإخوانية، لكنه يقفز على الواقع السياسي والقانوني الذي يحكم العالم المعاصر. فمفهوم الدولة القُطرية لم ينشأ مصادفة، بل هو نتاج تطور تاريخي استقر في النظام الدولي منذ معاهدة وستفاليا، وأصبح الإطار القانوني والسياسي الوحيد المعترف به عالميًا. والدولة الوطنية، مهما كانت حدودها الجغرافية، تبقى اليوم الكيان الوحيد القادر على تمثيل شعبه، وتأمين أمنه، والدفاع عن مصالحه.

فكرة “المصالح الضيقة” التي انتقدها المنشور تتجاهل أن ما يوصف بالمصالح، هو في حقيقة الأمر المعيار الأساسي الذي تُبنى عليه قرارات الدول. فالمصلحة الوطنية ليست نقيضًا للأخلاق، بل تجسيد لمسؤولية الدولة تجاه شعبها، وهي التي تقود سياساتها الخارجية والداخلية ضمن واقع دولي معقّد لا يحتمل الخطاب الإنشائي أو الأمنيات العاطفية.

الخطأ المنهجي في مثل هذا الطرح، أنه يعلي من قيمة “الأمة” بوصفها كيانًا يتجاوز الجغرافيا والسيادة، بينما يختزل الدولة في كونها أداة مصلحية خالية من البُعد القيمي. وهذا تصور غير دقيق، لأن التجارب العالمية كلها – بما فيها الدول ذات الخلفيات الدينية أو القومية – لم تتجاوز مفهوم الدولة ولم تلغِ السيادة لصالح كيان عابر للحدود. بل إن معظم المشاريع التكاملية الناجحة، كما في الاتحاد الأوروبي، انطلقت من الاعتراف بالسيادة واحترام الدولة الوطنية، لا من إلغائها أو تجاوزها.

غياب الحلم الجمعي لا يعود إلى “خيانة الأمة”، بل إلى غياب أدوات التكامل الفعلي، وضعف الهياكل المؤسسية التي تجمع بين الدول العربية في عمل مشترك منظم وفعّال. المطلوب اليوم ليس الحنين إلى “أمة” لا كيان سياسي لها، بل العمل الجاد لتقوية الدولة الوطنية، وبناء شراكات عربية قائمة على المصالح المتبادلة والرؤية المشتركة، بعيدًا عن الخطابات التي تُحرج الواقع ولا تغيّره.

في النهاية، يبقى من حق المفكرين أن يحلموا ويتألموا، لكن من واجب الساسة أن يوازنوا بين الحلم والواقع. وإذا كنا نردد في خطابنا كلمة “الأمة”، فعلينا أن ندرك أن الطريق إليها يمر عبر بناء الدول، لا إنكارها، وعبر تكامل حقيقي يبدأ من احترام السيادة، لا تجاوزها.