بقلم : ابراهيم السيوف
في زمنٍ بات فيه الموقف سلعة، والصوت ورقةً تُشترى، والكرامة بندًا يُفاوض عليه على موائد المستكبرين، يبقى الأردن واقفًا كجبلٍ من كبرياء، عصيًّا على الانحناء، بعيدًا عن الابتذال السياسي، عصيًا على الابتلاع في لعبة المحاور.
لا يملك الأردن بترولًا يغري الطامعين، ولا سواحل تفتح شهيّة المستعمرين، لكنّه يملك ما لا يُقاس: الشرعية التاريخية، والمكانة الأخلاقية، والدهاء الذي لا يُرى إلا في لحظات الانفجار. هو الدولة التي إن حضرت أعادت ترتيب الحضور، وإن غابت… فُقِد المعنى.
الأردن ليس صدى لأحد، بل نواةٌ صلبة في قلب الجغرافيا، وعقلٌ بارد في سخونة الشرق الأوسط. يمسك بخيوط اللعبة دون ضجيج، ويتقن فنّ التأثير بلا عناوين صاخبة. يفاوض بلا خضوع، ويتراجع بلا انكسار، ويقفز في اللحظة المناسبة ليغيّر قواعد الطاولة.
الملك عبد الله الثاني، قائدٌ يُشبه الزمن النقي، لا يُكثر من الكلام، لكنّه إذا تكلّم أصغت له خرائط القرار، وإذا ظهر على مسرح السياسة، تغيّرت الإضاءة. لا يحتاج إلى عصا غليظة ولا إلى طبول إعلامية، بل يحمل في صمته من الهيبة ما لا تحمله الجيوش في جحافلها.
الدبلوماسية الأردنية ليست “مهنة” تمارسها وزارة، بل هي حالة وعي للدولة كلها. من رأس النظام حتى أصغر موظف على الحدود. الكل يتكلم اللغة نفسها: الثبات مع المرونة، الكرامة مع الحكمة، والعقل مع الانتماء. لا نُفرّط في فلسطين، ولا نساوم على القدس، ولا نهادن على السيادة، ولا نُقايض أمننا الوطني بالمال ولا بالصمت.
من أراد أن يفهم لماذا يخشاه الكبار، فليتأمل جيدًا في صبره، وفي توقيت نطقه، وفي قدرة هذا البلد الصغير بمساحته أن يُربك الحسابات الكبرى كلما لزم الأمر. ليس لأنه الأقوى عسكريًا، بل لأنه الأقوى شرعيًا، والأفصح منطقيًا، والأثبت أخلاقيًا.
الأردن لا يبيع موقفًا، ولا يشتري رضا أحد، لأن من وُلد على الشرف لا يتغذّى على الرضا الزائف. ومن تربّى على تراب الكرامة لا يركع لطاولة فيها خبزٌ مشروط.
نحن لا نصدر تهديدًا، بل نُلقي الموقف كمن يُلقي حجرًا في بحيرة راكدة، فيصنع موجًا يصيب المدى كلّه. وإن ظنّ البعض أننا على الهامش، فليُراجعوا خريطة المنطقة: الهامش الحقيقي هو من لم يمرّ عبر عمان، ولم يستأذن منها عند كل أزمة.
نحن الأردن… إذا صمتنا، اضطرب الشرق. وإذا نطقنا، أعدنا ترتيب الشرق. وإذا غضبنا، فليس لأننا نهوى الغضب، بل لأن الصبر له كرامة… وإن نُهِكت الكرامة، نهض الحسم.