د. محمد عبد الله القواسمة
مر ببيت صديقه عبد الجواد، وجده يتهيأ للخروج. أسف لأنه جاء في وقت غير مناسب. أجابه، وهو يبتسم بأنه دعي من سفارة عربية إلى حفلة استقبال في أحد الفنادق الفخمة، والمناسبة عيد الاستقلال.
لم يحضر مثل هذه الاحتفالات، ولم يدعه أحد إلى الاحتفال بمناسبة وطنية أو سياسية؛ فلا يدعى إلا إلى حفلات زواج، وأعياد ميلاد، وتخرج من روضة، أو مدرسة، أو جامعة، لا يتناول فيها طعامًا أو شرابًا إلا في حالات نادرة، بل يدفع فيها من جيبه ما يسمى (النقوط).
قال لصاحبه:
– هنيئًا لك.
– ما رأيك أن ترافقني؟ توجد معي بطاقة لشخص آخر.
– لماذا لا أرافقك ما دام لديك بطاقة لي؟ لكني لا أملك بذلة تليق بالمناسبة.
– بسيطة نذهب إلى بيتكم ونأتي بواحدة.
– لا أملك بذلة.
نظر إليه بتمعن:
– بسيطة أيضًا. لدي جاكيت يليق بهذا البنطلون الذي ترتديه. سأحضره ونخرج.
غاب قليلًا، وعاد بجاكيت قماشه ولونه من نوع قماش البنطلون ولونه لكن أزراره كبيرة. راح يرتديها وينظر في المرآة.
قال عبد الجواد وهو يصفق بفرح:
– لا يهم، فيها بعض الاتساع، لا أحد ينتبه إليه.
في الطريق إلى الفندق سأل عبد الجواد عن البطاقتين، أعلمه بأنه حصل عليهما من طالب يعمل والده في السفارة، وأردف بأن ذلك من فوائد التدريس في مدرسة راقية.
استقبلهما بباب الفندق موظفو الفندق، وسار بهما أحدهم إلى قاعة واسعة، فيها جماعات من الناس بملابس جميلة وأنيقة.
صافحا السفير وأعضاء السفارة الذين اصطفوا على مدخل القاعة.
تركه صديقه عبد الجواد يشاهد فيلمًا عن تاريخ الدولة التي تحتفل بعيد الاستقلال، وطفق يسيح في القاعة. تناول كأس عصير من على إحدى الصواني التي يطوف بها الندل. لم يستطع معرفة نوعه، وإن كان مذاقه عذبًا..
كان يراقب على الشاشة تقدم تلك الدولة في استخراج النفط وتصديره، واستقدام العمالة الأجنبية عندما انتبه إلى من يلامس كتفه، استدار، خاطبه رجل ياباني بالإنجليزية الضعيفة، فقد حسبه أحد أصدقائه. سأل في نفسه: هل يشبه الأجانب من الإنجليز أم من اليابانيين؟ تمنى أن يشبه اليابانيين. فما زالت فكرة الساموراي تداعب مخيلته.
أنقذه مجيء صديقه عبد الجواد من الاسترسال في التمني، وسحبه من يده:
– ستأكل رزًا لم تذق مثله في حياتك.
– رز يا عبد الجواد! ألا تعلم بأن السكري يقترب مني لكثرة ما أكلت الرز؟
قادني إلى خاروف معلق فوق صينية واسعة تمتلئ بالرز. وقال:
– لا تركز على اللحم بل على الرز.
طلبت من العامل المسؤول عن هذا الجزء من الاحتفال أن يضع في الصحن، الذي تناولته قليلًا من الرز وكثيرًا من اللحم.
في الحقيقة كان عبد الجواد على صواب؛ فطلبت الرز دون اللحم في المرة الأخرى.
ثم سار بي عبد الجواد، الذي أعترف بخبرته في مثل هذا النوع من الاحتفالات إلى ركن آخر من الطعام. حيث صوان واسعة فيها نوع من الطعام بألوان الأسود والأحمر والرمادي والأصفر لم أر مثله من قبل. هجم صديقي بنهم:
– تذوق كافيار قزوين.
قرأت عن الكافيار بأنه بيض السمك، ورائحته مثل سمك السردين. تذوقته، لم يطب لي مثل الرز، لكني أكثرت منه؛ لأنه، كما همس في أذني صديقي، يباع بالغرام، ولا يأكله إلا علية القوم، ويقوي المناعة، ويقضي على كل ضعف.
انتهت جولتنا. وصار بعض الحاضرين يغادرون القاعة. انتهينا إلى حيث السفير وأعضاء السفارة في وداع المهنئين وشكرهم. أوقفني السفير وراح يشكرني ويكلمني بلغة إنجليزية مهشمة، وأنا أهز رأسي كأني أحثه على إنهاء كلامه. ربما حسبني رجل أعمال مهمًا، ولم ينتبه إلى بذلتي المهجنة. أخيرًا أسرعت لألحق بصديقي. سمعت ضجة، لكني لم ألتفت ورائي. أوقفني موظف الفندق وهو يقول:
– سعادة السفير يريدك.
استدرت. كان خيطًا من خيوط عباءة السفير المقصبة شابكًا بزر جاكيتي، والسفير يسرع في هدوء كي يلحق بي. قطعت الخيط، واعتذرت له عن هذا الاشتباك غير المقصود. وخرجت.
كان عبد الجواد ينتظرني وهو يضحك.
– احمد الله أنه لم يتهمك بالإساءة إلى سعادته.
– الحمد لله! لكن لن أعيد إليك هذا الجاكيت، سأحتفظ به لاستخدامه في أية احتفالات استقلالية قادمة.