المثقف وغياب الديمقراطية

منذ 3 ساعات
المثقف وغياب الديمقراطية

الكاتب د. محمد عبد الله القواسمة

في حوار أُجري مع أحد المثقفين العرب صرح ذلك المثقف بأن الاستبداد، وغياب الحرية والديمقراطية، وارتباط المثقفين بمؤسسات تابعة للدولة وغير مستقلة فرّغ دورهم من أهميته، وعزلهم عن الناس؛ بل وعاقبهم بطرق مختلفة. وجاء عنوان الحوار ملخصًا لذلك الموقف: «غياب الديمقراطية تسبب بتغييب دور المثقف العربي»
والحقيقة – كما أرى – أن غياب المثقفين في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية العربية لم يكن بسبب غياب الديمقراطية بل إن من أهم أسباب غياب الديمقراطية هو تغيب المثقفين أنفسهم عن أداء دورهم. فالمعروف أن المثقف حامل شعلة التغيير والتقدم، ودوره الدفاع عن الاختيار الديمقراطي، وعن حقوق الإنسان وكرامته، وتوعية الشعب بحقوقه وواجباته، والدعوة إلى حرية القول واحترام الرأي الآخر. والسعي لتكون له سلطة معنوية مقابل السلطة السياسية. إن الديمقراطية هي التي تضمن له وجوده المستقل والمؤثر.
ووجدنا مصطلح المثقف يتجسد عمليًّا، منذ أن ظهر في نهاية القرن التاسع عشر في موقف الكتّاب الفرنسيين الذين سموا أنفسهم مثقفين، حين أصدروا بيانًا، من بينهم الروائي إيميل زولا يدافعون فيه عن الضابط الفرنسي درايفوس الذي لُفّقت له التهم وحكم جورًا بالخيانة العظمى. ونشر زولا مقالًا في إحدى الصحف بعنوان «إني أتهم!» يدافع عن درايفوس. وكان له صدى واسع في فرنسا وأوروبا.
في بلادنا العربية غاب دور المثقف عن الساحة مع استثناءات قليلة؛ فغابت الديمقراطية، ولم نعد نرى المثقف العضوي كما عند غرامشي، أو المثقف الملتزم كما عند سارتر، أو المثقف الثوري، أو المناضل، أو المتفاعل مع الناس، والمنافح عن المضطهدين. بل رأينا المثقف مهادنًا السلطة ليس السلطة السياسية فحسب بل السلطة الاجتماعية والدينية أيضًا، فساير العادات البالية، والأطروحات والفتاوى الخرافية التي تسيء إلى الدين الحنيف.
ورأينا بعض المثقفين يهرب من المواجهة، ويبتعد عن واقعه ومجتمعه، وبعضهم يدخل برجه العاجي ولا يخرج منه. ورأينا بعضهم يساير الواقع ويتملق القوى المتنفذة فيه، ورأينا ما يمكن وصفه، على حد تعبير المفكر البولندي زيغمونت باومان بالمثقف السائل، الذي يتقلب ويتلون حسب العرض والطلب، ولا مانع عنده من الوشاية والتضحية بغيره من المثقفين لتحقيق مآربه. ورأينا بعض المثقفين من يساند المستعمر في هجومه على بلاده والسيطرة على خيراتها.
آثر المثقف بشكل عام الهروب، أو الاغتراب، أو الخضوع للواقع، والسعي وراء مصالحه على حساب الصالح العام، وفي كتاب عن المثقف العربي يكشف الباحثان: عمرو عثمان، أستاذ العلوم الإنسانية في جامعة قطر، ومروة فكري، أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن غالبية المثقفين العرب على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم يرون في الدولة أو السلطة عامة بأنها الأداة الرئيسية للتغيير والإصلاح الديمقراطي. وبالتالي فلا غرابة أن نجد المثقف يعارض الثورات الشعبية التي تطالب بالحرية والعدالة.
إن المثقف الحقيقي هو من ينهض بدوره في دعم العملية الديمقراطية، وتعزيز ثقافة الحرية والعدل والمساواة، ورفض الخضوع لأية قوة أو سلطة، كما يقول إدوارد سعيد مؤلف كتاب «خيانة المثقف»: «على المثقف أن يتحمل تمثيل الحقيقة بأقصى ما يستطيع من طاقة على السماح لراع أو سلطة بتوجيهه».
إن موت المثقف يكمن في عدم تبنيه حركة المجتمع نحو الديمقراطية، وتحقيق العدل، أو كما يقول هربرت ماركيوز في كتابه (نحو ثورة جديدة): « في تخليه عن وظيفتهِ المتمثلة في تحرير الوعي مِن الأوهام، ورفض الأوضاع السائدة.. إن مهمّة المثقف هي صون الحقيقة من الضَّياع»
والخلاصة فإن تردي الإصلاح الديمقراطي، والتعثر في تحقيق الديمقراطية في بلادنا إنما يعود في جزء مهم منه إلى ما يتصف به المثقف العربي عامة من ضعف، وتردد، وتخاذل، وانهزامية، وخيانة في بعض الأحيان؛ لهذا حتى تتألق الديمقراطية في بلادنا، ولا تغيب شمسها عليه أن يعيد النظر في ذاته، ويمارس دوره في التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية، كما فعل المثقفون العرب في القرن الماضي عندما كانت بلادنا تحت الاستعمار الغربي؛ إذ حققوا الاستقلال والحرية بفكرهم ودمائهم