وطنا اليوم_في 20 يناير 2025، يُستعاد دونالد ترامب إلى سدة الحكم، حاملاً معه رؤيته لمستقبل الشرق الأوسط الذي يشهد تحولات استراتيجية تتجاوز الحدود الإقليمية لتصل إلى صميم العلاقات الدولية. العودة المنتظرة للرئيس الأمريكي هي أكثر من مجرد تجديد ولاية؛ إنها عودة مرفقة بأجندة متجددة تهدف إلى فرض السيطرة الأمريكية في قلب العالم، حيث يسعى ترامب ليس فقط لاستعادة الهيبة الأمريكية، بل لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفقًا لمصالح واشنطن وتطلعاتها المستقبلية.
في ظل هذه العودة، تظهر الصراعات الدولية بوضوح على أرضية شديدة الحساسية؛ وعلى رأسها سوريا، التي كانت منذ البداية ساحة تصادم بين القوى الكبرى. وبعد انهيار النظام المدعوم من موسكو، نجد أنفسنا أمام واقع جديد. روسيا، التي لطالما تباهت بحضورها القوي في سوريا، تشهد تراجعًا مفاجئًا في نفوذها بعد انهيار النظام الذي قاتلت من أجله، لتخلي مكانها لأمريكا التي تقتنص الفرصة لتعزيز قبضتها على المنطقة. ترامب، الذي لا يتردد في انتهاج السياسات الأكثر تطرفًا، سيتجه بكل قوته لتوطيد الوجود الأمريكي في سوريا، مستخدمًا جميع الأدوات الممكنة؛ من القوة العسكرية إلى التفاهمات الاستراتيجية مع القوى الإقليمية الداعمة لأمريكا.
لكن الأمر لا يقتصر على القوة العسكرية أو النفوذ السياسي. عودة ترامب تحمل في طياتها تهديدًا وجوديًا لموازين القوى في المنطقة، خصوصًا في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. في فترة سابقة، فرض ترامب خطته المثيرة للجدل المعروفة باسم “صفقة القرن”، وهي خطة تسعى إلى إعادة ترتيب خارطة فلسطين بما يتناسب مع مصالح إسرائيل. ولكن مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، من المتوقع أن تُدفع القضية الفلسطينية إلى زاوية جديدة من القسوة السياسية، ما يزيد الضغط على الدول العربية التي لم تجد حتى اليوم إجماعًا حقيقيًا للوقوف في وجه هذه المخططات. الأردن، الذي يتبنى دائمًا موقفًا صلبًا في الدفاع عن القدس والمقدسات، سيجد نفسه في مواجهة خيارات سياسية شديدة الصعوبة بين الحفاظ على علاقاته مع واشنطن ودرء التحديات الكبرى التي تفرضها سياسة ترامب في المنطقة.
أما إيران، فتبقى أكبر التحديات الاستراتيجية التي يواجهها ترامب. فمع تصاعد الضغط الأمريكي من خلال سياسة “الضغط الأقصى”، ستجد طهران نفسها مجبرة على اتخاذ قرارات مصيرية للحفاظ على مكانتها الإقليمية. ورغم ذلك، فإن إيران لن تسقط بسهولة في هذا الصراع، بل ستسعى إلى تجميع قواها عبر تحالفات جديدة، مستفيدة من الفراغ الناتج عن تراجع النفوذ الروسي في المنطقة. سيشتعل الصراع الإقليمي بين الولايات المتحدة وإيران، ويصبح الشرق الأوسط مسرحًا لصراع طويل الأمد في ظل تقلبات غير مسبوقة.
دول الخليج، التي لطالما كانت تشكل قلب استراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة، ستظل محط اهتمام شديد في ظل سياسة ترامب التي تسعى إلى تعزيز الشراكات العسكرية والاقتصادية مع هذه الدول. بيد أن هذه الدول تواجه تحديًا مزدوجًا: فمن جهة، هي في حاجة إلى الدعم العسكري الأمريكي ضد التهديدات الإقليمية، ولكن من جهة أخرى، هي مدفوعة بضرورة التنويع في علاقاتها مع القوى الكبرى الأخرى، مثل الصين وروسيا، ما قد يعرقل استمرار الهيمنة الأمريكية في المستقبل. في هذا السياق، ستبقى دول الخليج بين فكي كماشة؛ تبحث عن توازن حذر بين ضمان أمنها والحفاظ على مصالحها الاقتصادية بعيدًا عن التبعية المطلقة.
وعلى الرغم من التحولات العسكرية، تظل الدبلوماسية هي سيدة الميدان. فعودة ترامب إلى البيت الأبيض تعني تبني استراتيجية دبلوماسية جديدة تركز على التفوق الأمريكي على حساب القوى الأخرى. وفي هذا الإطار، سيعمل ترامب على إعادة هيكلة التحالفات في المنطقة بما يتماشى مع مصالح بلاده، بينما يواصل مساعيه لتصفية الحسابات مع خصومه التقليديين، مستغلًا الانقسامات داخل العالم العربي. القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ستكون في آخر قائمة أولوياته، إذا ما اعتُبرت جزءًا من آلية الضغط السياسي؛ بينما سيستمر في فرض الحلول وفق إرادة واشنطن، بعيدًا عن أي منطق دولي قائم على التفاهمات المشتركة.
وبالنظر إلى هذا الواقع، فإن الشرق الأوسط يشهد اليوم تحولًا دراماتيكيًا في خريطة القوى. القوى الكبرى – من الولايات المتحدة إلى روسيا – تتقاطع مصالحها وتتنازع من أجل رسم مستقبل المنطقة وفقًا لرؤاها الخاصة. في هذا السياق، لم يعد القانون الدولي سوى أداة ضعيفة في مواجهة أنظمة الهيمنة والتوسع. بيد أن ترامب، بحكمته السياسية وعدوانيته الدبلوماسية، سيكون له القول الفصل في إعادة صياغة معادلات القوة. سيتحقق ذلك عبر ضرب استقرار الأنظمة غير المتوافقة مع رؤية واشنطن، بينما يعزز التفوق الأمريكي في الشرق الأوسط بكل الوسائل المتاحة.
المنطقة اليوم على مفترق طرق، بين إمكانيات إعادة بناء توازنات إقليمية جديدة وبين تحولات قد تكون أكثر تعقيدًا وأشد خطرًا. في هذه المرحلة الحرجة، يجب أن تكون الدبلوماسية العربية يقظة، وتستعد لمواجهة التحديات المتنامية، حتى لا تصبح ضحية لتغيرات تعصف بمستقبلها السياسي والاقتصادي.