التنافسُ بين التعليم والتجهيل على صياغةِ ثقافاتِ الشعوب

2 يناير 2025
التنافسُ بين التعليم والتجهيل على صياغةِ ثقافاتِ الشعوب

د. عادل يعقوب الشمايله
انقل عن المتنبي الشاعر العربي المشهور بيت الشعر التالي:

أَماتَكُمُ مِن قَبلِ مَوتِكُمُ الجَهلُ
وَجَرَّكُمُ مِن خِفَّةٍ بِكُمُ النَملُ

في اللغةِ يقابلُ كلمةَ تعليم كلمةَ تجهيل.
وكما أنَّ التعليمَ يُنتجُ علماً، فإنَّ التجهيلَ يُنتجُ جهلاً.
الأصلُ de facto هو الجهل. يولدُ الإنسانُ جاهلاَ، ويظلُّ جاهلاً ما لم تتم إزالةُ جهلهِ بالاستعلامِ والتعليم.
التعليمُ يتطلبُ مؤسساتٍ أُصطلحَ على تسميتها مدارسَ ومعاهدَ وجامعات. ولأنَّ العلمَ نُورٌ، والخفافيشُ لا تُطيقُ بطبعها النور، فإنَّ العلمَ مُنذُ الأزلِ مكروهٌ من اشباه الخفافيش وَمُحَاربْ.
التجهيلُ أيضاً، وبالضرورة، يَتَطلبُ مؤسسات.
الفرقُ بينَ مؤسسات التعليم ومؤسساتِ التجهيلِ أنَّ مؤسساتِ التعليمِ تكونُ ظاهرةٌ ومُعَرَّفةٌ ومقبولةً من غالبيةِ المجتمع، وتعملُ وتمارسُ نشاطاتها في وضحِ النهار. بينما مؤسساتُ التجهيلِ بعضها مُدركٌ، وغالبها خفيٌ مبهمٌ ومستتر.
نتسائلُ لماذا تتمُ عمليةُ التجهيلِ بالموازاةِ والمباراةِ والتنافسِ مع عمليةِ التعليم؟ ولماذا يُرصدُ لعمليةِ التجهيلِ مخصصاتٌ، وتُرعى مؤسساتهُ، وَمُحَصَنَةٌ من التقييمِ والتجريمِ والمحاسبة.
الجوابُ: أنَّ رسالةَ التعليمِ واهدافهُ ووسائلهُ تستندُ الى مشروعيةٍ تاريخيّةٍ، لا خلافَ عليها، والى نتائجَ ثبتَ بالتجربة الطويلةِ أنها تُنقذُ وترعى وتخدمُ الإنسانيةَ في كافة المجالات.
في حين أنَّ هدفَ التجهيلِ ايذاء الإنسانيةِ وتعظيم وتعقيد مشاكلها ومصائبها، وترسيخ التسلط والاستعباد والنهب والافقار والاقتتال غيرَ المبررِ، ومقاومةَ التغييرِ لعرقلةِ التقدمِ في كافة المجالات المفيدةِ والبناءة.
بالمقارنة: التعليمُ يخدمُ الجماهير. لأن التعليمَ يخلقُ الوعيَ.
بينما التجهيلُ يغيبُ الوعيَ وبذلك يخدمُ السلطتين المتحالفتين السياسيةِ والدينية. لأنَّ الوعيَ اخطرُ من السيفِ والبندقيةِ على السلطتين السياسية والدينية.
ملاحظه: التجهيلُ اكثرُ نجاحاً من التعليمِ في تشكيلِ ثقافةِ الشعوبِ وأقدرُ على ترسيخ تسخير ورضوخ الجماهير واستعبادها.

يرى د. كارل ماركس أنَّ الفقرَ وحدهُ لا يُشعلُ الثورة. إنما الوعيُ بالفقرِ هو الذي يُحَركُ الجماهير.
ويضيف ماركس أنَّ حُكمَ الطاغيةِ يُفقِرُ الشعبَ إضافً الى اذلاله، ورَجُلَ الدين (بغض النظر عن اسم الدين) يُعمي بصيرتهُ حتى لا يُدركَ حدةَ الفقر وطبيعةَ الظلمِ الواقعِ عليه. إنها علاقةُ تبادلِ أدوار تُبقي الأغلبيةَ أسيرةً لواقعها، حيثُ يُصبحُ التحررُ مستحيلًا إلا عبرَ ظهور تحولٍ في الوعي الجمعي.

كنتُ قبلَ ايام في زيارةٍ لمستشفى ابن الهيثم. جلستُ على مقعدٍ أمامَ مكتب موظف التأمينات لحين الحصول على موافقة التأمين الصحي. لفت انتباهي صورةٌ معلقة خلف مكتب الموظف ومبين عليها أنها لابن الهيثم.
سألتُ موظفَ التأمينات من هو الختيار صاحب الصورة خلفك ومن أي محافظة؟
اجابني بأنهُ لا يعرف من هو. أعدتُ السؤالَ واكدتُ عليه مستغرباً ومتسائلا إن كان يمزح. اقسمَ لي أنهُ لا يعرف من هوَ لأنهُ لم ينتبه للصورةِ أصلاً، وأنه لم يكن مهتماً بالنظر اليه وبمعرفته.
قلتُ لهُ لا بد أنهُ شخصٌ مهم ومن المتوقع ان تعرف من أي محافظة من محافظات الاردن ومن أي عشيرة. كررَ الاجابةَ اياها.
بعد أن انتهت معاملتي عند موظف التأمينات انتقلتُ الى مكتب السجلات. اثناءَ قيامهِ باستكمال معاملتي وجهتُ لهُ نفسَ السؤال عن اسم صاحب الصورة المعلقة خلفه فأجابني نفس الجواب ورَحَّلَ السؤالَ لزميلهِ فاجابَ بتلقائيةٍ أنه لا يعرفه.
تساءلتُ بيني وبين نفسي، ايعقلُ ان يعملَ موظفٌ جامعيٌ في مستشفى يحمل اسم عالم مسلم “عَلَمٌ في تاريخ العلوم”، وأن تكون صورة ذلك العالم الذي سُمِّي المستشفى باسمه منتشرةً في كافة صالات وغرف الانتظار والممرات في المستشفى ومع ذلكَ لم تلفت انتباه الموظفين لمعرفة من هو، ولماذا تُعَلقُ صوره ولماذا سمي المستشفى بأسمه اصلاً.
الخلاصه:
التجهيلُ اكثرُ نجاحاً من التعليمِ في تشكيلِ ثقافةِ الشعوبِ وأقدرُ على ترسيخها.
الجهلُ روتين واستسلام للواقعِ المُعاشِ كما هو ، كما تمثلها وظيفةُ ثورِ الساقية. بينما العلمُ يُنتجُ حالةَ قلقٍ ورفضٍ للاستسلام والتسليم وبحثٍ وتغيرٍ مستمر