عام جديد من وحي الجولاني

1 يناير 2025
عام جديد من وحي الجولاني

تمارا خزوز
من غير الممكن طي صفحة العام بما شهده من مآلات وارتدادات وتصدعات سياسية، دون التوقف مليا لاستخلاص الدروس والعبر. فهو عام التحولات الجذرية والزلازل الجيوسياسية التي أعادت صياغة حدود الممكن والمستحيل في عالم السياسة.
أول هذه الدروس مفادها أن القوى الكبرى، إن أرادت، فعلت، وأنها قادرة على تحويل الخيال إلى واقع؛ بدليل القبول بجماعة خارجة من رحم السلفية الجهادية، مصنفة على القوائم السوداء للجماعات الإرهابية، وإيصالها إلى سُدّة الحكم في «قصر الشعب» بدمشق في غضون أسابيع!
كما أن الجماعات والتنظيمات -إذا ما أرادت- تستطيع تطويع أهدافها وخطابها بعيدًا عن التطرّف والوصول إلى تفاهمات من خلال إيجاد «المشترك» مع العالم وعدم إنكاره. فها هو الجولاني يخرج علينا من خلال شاشات القنوات الغربية في تحول مذهل لخطابه السياسي، يحاكي فيه مدنية الدولة وحماية أقلياتها، ويوحي باتخاذ الجماعة مسارا مدنيا جديدا لحكم الدولة، وتخليها عن الأدبيات التقليدية، واعتمادها خطابا وطنيا محليا مستلهما من ارتدادات «السابع من أكتوبر».
بالطبع، لم يكن هذا التحوّل وليد اللحظة أو نتيجة لأحداث الثامن من ديسمبر، بل هو نتيجة عملية إعادة تأهيل معقدة وطويلة تحت إشراف قوى إقليمية ودولية، تم تنفيذها بأعلى درجات الاحترافية لتخرج هذا المشهد السوريالي، الذي لو كُتب للسينما لاتهمنا صانعيه بالمبالغة.
كما أن هذا التحوّل مرتبط بمسألة أخرى غاية في الدقة، وهي عدم السماح بوجود السلاح خارج إطار الدولة في المنطقة. ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال تكثيف تداول مفهوم «احتكار الدولة للعنف» مؤخرا في مختلف المنابر الإعلامية والسياسية. هذه رسائل القوى العظمى للمنطقة، وهي مرتبطة حتما بسلاح حزب الله وإيران، وستتوالى في الفترة المقبلة إعادة ترتيب الأوراق والمشاهد لنلاحظ اختفاء تاما لمصطلح «السلاح المنفلت» أو «الجماعات المسلحة».
محليا وعلى مستوى السياسة الخارجية، الأردن الرسمي ومنذ السابع من أكتوبر يمشي على صفيح ساخن، ويسابق الوقت في التقاط الإشارات والبناء عليها، خاصة وأنه وضع الخطوط العريضة للتعامل مع سورية الجديدة ضمن إعلان العقبة وتوج لاحقا تحركاته بزيارة وزير الخارجية الأخيرة لدمشق ويتابع بدقة تطورات المشهد على مدار الساعة.
أما على مستوى الحراك السياسي الداخلي، ومع الأسف، يظل الخطاب السياسي التقليدي أقل من المأمول، عالقا في مضامينه القديمة التي لم تواكب المتغيرات الإقليمية. الأمر يثير تساؤلات حول فعالية التحديث السياسي الراهن وأدواته، وقدرة الأحزاب السياسية والأطراف الفاعلة الأخرى على تطوير خطابها، وإدراك -قبل فوات الأوان- حقيقة عدم وجود مكان في المرحلة المقبلة للصراعات التقليدية على شكل تلك الدائرة حاليا بين تيارات المحافظين والحركة الإسلامية، أو للطروحات الخشبية لبعض الفصائل اليسارية التي ترفض، حتى الآن، إدانة جرائم النظام السوري ورئيسه الهارب.
خطاب الجولاني هو نموذج لما يريده العالم من المنطقة أو بمعنى أدق لما قد يفرض على المنطقة من نماذج، وبغض النظر عن المسمى «التركي» أو «الأردوغاني»، وسواء استقر العالم على قبوله أو حدثت هزات سياسية ارتدادية أخرى نتيجة عدم التوافق عليه، سيبقى بوضع المتفرج كل من فشل في التقاط حجم المتغير، الذي يحتاج حتما للاستعداد والتحضير لمواجهة القادم من خلال تمتين الجبهة الداخلية وتقوية المؤسسات، وتعزيز قدرتها على الاستجابة، وزيادة مرونتها وقدرتها على التصدي للتحديات.
فبين زلازل السياسة وتقلبات التحالفات، بات واضحا أن النماذج التقليدية للصراع والخطاب لم تعد صالحة. وإذا كان العام قد قدم دروسا كثيرة، فإن الدرس الأهم هو أن التغيير ليس خيارا بل حتمية، وأن من لا يقرأ إشارات الواقع سيجد نفسه خارج معادلاته فالقادم مفتوح على كل الاحتمالات!