د. عادل يعقوب الشمايله
مُنذُ الانقلابِ العسكري الذي قادهُ جمال عبدالناصر عام ١٩٥٢ بدأَ تاريخُ الحُكمِ العسكري الاستبداديّ في معظمِ الدولِ العربيةِ.
وكانَ من مظاهرِ السيطرةِ العسكريةِ توجيهُ مُعظمِ نفقاتِ الموازناتِ العامة للجيوش والاجهزة الأمنيةِ، بالتوازي معَ تراجعِ المكانةِ والاهمية النسبية والاهتمام والرعاية وتخصيصِ المواردِ الكافيةِ، للتعليم بكافةِ مراحلهِ والصحة والزراعة والصناعة والبنية التحتيه، والاستثمارِ المؤدي للتنميةِ الاقتصاديةِ، بتجاهلٍ واضحٍ او جهلٍ مذموم لما تنتجهُ التنميةُ من فرصِ عملٍ ورفعِ المستوى المعيشي للمواطنين وانخفاضِ معدلاتِ البطالة والفقر.
كما أنَّ من ابرزِ مظاهر الحكوماتِ العسكريةِ الاستبداديةِ هو سيطرةُ اللون الواحد، وتهميشِ وتطفيشِ من يمكنُ تطفيشه من باقي الوان الطيف الوطني في كل دولةٍ من الدولِ العربيةِ وخاصةً تطفيشَ كُلُّ من يفكر وكلَّ من ينتقد وكل من يعترض.
تحولت الدولُ العربيةُ الاستبداديةُ الى حظائرَ أو زرائبَ تزدحمُ وتتناطحُ بينَ جدرانها السميكةِ القطعانُ المقهورةُ المُستَلبةَ من حقوقِ الانسانِ واحياناً حتى من حقوق الحيوان.
كما أنَّ من مظاهرِ سيطرةِ اللون العسكري الذي بدأ في مصر عبدالناصر وقلدتهُ بعد ذلك الانظمةُ الانقلابيةُ بعدَ اذاعةِ البيان الاول، ثم استمرأتهُ الانظمةُ غير الانقلابية، هو استمالةُ منتسبي الاجهزة العسكرية والامنية، بالتوازي مع استبعادِ واهمالِ منتسبي الجهازِ المدني. حيثُ يُقدَمُ لمنتسبي الأجهزةِ العسكريةِ والامنيةِ رواتبَ وعلاواتٍ اعلى، وامتيازاتٍ اضافيةٍ كاللباس والمأكل والمسكن والسيارات للضباط بمن فيهم الرتب الدنيا، والبعثات لابنائهم والتأمين الصحي المميز والدورات التدريبية في الخارج في موسكو والصين والمانيا الشرقية والدول الغربية.
وفي الوقتِ الذي تتجمدُ فيهِ رواتبُ العاملين والمتقاعدينَ المدنيين، لا يتوقفُ منحُ العلاوات والأعطيات والاسترضاءات للعسكريين والامنيين. بل إن حصةً وافرةً من المناصبِ القياديةِ في الوزارات والمؤسسات والشركات الحكومية والشركات الخاصة التي جرى تأميمها قد عُهدَ بإدارتها لضباطَ كبارَ سابقين لا يتقنونَ ما تدربوا عليه فكيف يمكنهم اذاً إتقانُ ادارةِِ ما لم يتدربوا عليه وأُسقطوا على ادارتها بالمظلات.
المقابلُ المطلوبُ مُقابلَ التمييز الاعمى ونهج الاسترضاء، هو ولاءُ العسكريين والامنيين لمنعِ وثوبهم على كراسي السلطةِ بانقلاباتٍ دموية. فجيوشُ واجهزةُ أمنِ الدولِ العربيةِ لا تخوضُ حروبا وليست مُعَدةً أصلاً لخوضِ حروب. وعندما حدثَ وخاضت حروبا، فصفحاتُ التاريخِ لم تُغفل تسجيلَ النتائجِ الكارثيةِ والهزائمَ وضياعَ مساحاتٍ شاسعةٍ من الاراضي والمياهِ والسيادة. يدخلُ المجندون ويتقاعدون دون أن يطلقوا طلقة واحدةً دفاعاً عن الاوطان وحقوقها المنهوبة والمغتصبة.
لكن، هل الولاء الذي ترجوهُ وتتوقعهُ الحكوماتُ الاستبداديةُ من جيوشها واجهزتها الامنية مضمون؟ التجاربُ إبتداءاً مما حدث لجيشِ واجهزةِ أمنِ شاهِ ايران مروراً باختفاء الجيش العراقي ليلةَ زفةِ دخول الجيش الامريكي لبغداد، وقبلهُ الانقلابُ العسكري الفظيعُ في العراق على حكم الملك فيصل بن غازي، وانقلابُ الجيش الليبي على الملك ادريس السنوسي، وسقوطُ معمر القذافي، وتخلي الجيش التونسي عن الرئيس شيخ الجاحدين بن علي، وانقلاب عبدالناصر على الملك فاروق وانقلاب الجيش اليمني على ملك اليمن، واغتيال الرئيس السادات بطل حرب اكتوبر على يد من كان يصفهم اولادهُ افراد الجيش المصري، وتخلي الجيش المصري عن الرئيس مبارك، والانقلاباتِ المتتاليةِ في الصومال والسودان والجزائر.
هل تكفي هذهِ الامثلةُ لأقناعِ الحكام العرب الحاليين واللاحقين، أنَّ خَطبَ ودِّ الجيوشِ والاجهزة الامنيةِ غيرَ مضمونِ النتائج. وأنَّ هذهِ الجيوشِ والاجهزةِ الامنيةِ التي ثبت واثبتت انها اوهى من بيتِ العنكبوت، وأنها مستعدةٌ جداً لتبديلِ الولاءات، وقَبلها او بعدها، تبديلَ الملابسِ وارتداءَ اللباسِ المدني حتى ولو تطلبَ الامرُ البسةً نسائيةً، وإلقاءَ اللباسِ العسكري في الحاويات، وتسليمَ اسلحتها او بيعها للجماهير الغاضبة الهائجة المائجة التي فاض بها وملت من الوعود والقهر والفقر والتعسف ونهبِ دخولها بشتى انواع الضرائب دون تقديم خدمات بالمقابل.
العدالةُ والمساواةُ بين الاجهزة الحكومية المدنية من جهة والاجهزة العسكرية، وبين المتقاعدين المدنيين والمتقاعدين العسكريين من الجهة الثانية. وبين كافة المواطنين بغض النظر عن قبائلهم وعشائرهم، وانما على اساسِ المواطنةِ، والاقترابِ والتقريب بدلا من التغريب والاغتراب، والتهميش والتطفيش.
للتذكير، تنتمي الاجهزةُ العسكريةُ والامنيةُ لوزارتين فقط في كافة الدول العربية. بينما هناك ما بين ٢٠-٣٠ وزارةً للاجهزة المدنية وعشرات الدوائر والمؤسسات. الاجهزةُ المدنيةُ هي التي تتعاملُ مع المواطنين يوميا وتقدمُ لهم الخدمات الحكومية. الاجهزةُ المدنيةُ تقدمُ سلعاً وخدماتٍ حيويةً تحتكرها الحكومات ولا بديلَ عنها من القطاع الخاص. تلكَ الخدماتُ كفيلةٌ ببناءِ الدولةِ وتقدمها او تخلفها وهدمها: التعليم بمراحله، الصحة، القضاء، النقل، الاتصالات والمواصلات، الطاقه بأنواعها، الثروة المعدنية، المياه والزراعة والبيطره، والمالية والجمارك، الصناعه والتجارة والزراعه والتنمية الاجتماعية والعمال ومكافحة الفقر وتحصيل ايرادات الحكومة.
الجهازُ المدنيُ هو المسؤولُ عن اعدادِ وتنفيذِ خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والحفاظِ على البيئة وثروات الوطن.
لذلكَ، فإنَّ التمييز بين الجهازين العسكري والمدني، وايجادْ انقسام عمودي بينهما ليس في صالحِ الدول والحكومات. الجهازُ المدني هو الذي يحافظُ على الدولةِ او يدفعها للانهيار.
عندما يشاهدُ المتقاعدون المدنيون الزيادات المتواصلة لزملائهم في الاجهزة العسكرية سنوياً بينما هم في وضع مكانكَ قفْ لعقود، فإنَّ ذلكَ يخلقُ الغيرةَ والحسدَ والنقمةَ حتى بينَ افرادِ الاسرةِ الواحدةِ وابناءِ العم.
هذا لا يعني انَّ افراد الجهاز العسكري والامني خاصةً في الرتب الوسطى والدنيا والمتقاعدين العسكريين من الجنود وصغار الضباط يعيشونَ في بحبوحةٍ من العيش او البطر بل على العكس، ولكنَّ وضعهم افضلَ بكثير من وضعِ الموظفين والمتقاعدين المدنيين من ادناهم رتبةً الى اعلاها.
ماذا كان ينتظر بشار الفأر من عسريين ومدنيين لا تتجاوزُ رواتبهم عشرة دولارات. والامر ينطبقُ على مصر والسودان والجزائر. تعويض هذا النقص في الدخل يُعَوَضُ بإهمالِ الواجباتِ والبلادةِ واللامبالةِ والفسادِ والتعويقِ والنقمةِ والخيانة.
إنَّ سياسةَ تجميدِ الاجور التي فرضها صندوق النقد الدولي في كافةِ الدولِ التي ارتضى سياسيوها الاقزام فكرياً ان تخضعَ لتعليماتهِِ بغباءٍ وجهلٍ ودونيةٍ وقلةَ مروءةٍ وانعدامِ الحيلةِ عندَ اصحابِ القرارِ فاقدي الاهليةِ والكفاءةِ والشجاعةِ والوطنيةِ إنما هي بذرةُ الفوضى وما يتلو الفوضى.
المدنيونَ اسقطوا انظمةً عربيةً وليس فقط الاجهزة العسكرية قادرةً على اسقاطِ الانظمة. من لا يتعظ بغيره لن يتسنى له الوقت ليندم ولا محارم الكلينكس ليمسحَ دموعهُ