كتب الدكتور محمد الهواوشة :
الثورة السورية، التي انطلقت في عام 2011 بشعارات الحرية والكرامة، تحولت سريعًا إلى ساحة صراع إقليمي ودولي أعاد تشكيل خريطة المصالح والتحالفات في الشرق الأوسط. وبينما أظهرت الثورة منذ بدايتها أنها نداء شعب مظلوم يطالب بحقه في العدالة والديمقراطية، فإن التدخلات الأجنبية ساهمت في تعقيد المشهد وتحويل سوريا إلى أرض معركة بالوكالة.
أمريكا: سياسة الاحتواء والتحكم
لم تخف الولايات المتحدة تدخلها المباشر وغير المباشر في الثورة السورية. فمنذ اللحظة الأولى، دعمت بعض فصائل المعارضة بالسلاح والتدريب، تحت ذريعة دعم “الثوار المعتدلين”. ومع ذلك، كانت السياسة الأمريكية محكومة بهدف استراتيجي أكبر: منع أي طرف من تحقيق نصر كامل والحفاظ على حالة من التوازن تخدم مصالحها.
لم يكن الهدف من التدخل الأمريكي تحقيق الديمقراطية للشعب السوري، بل احتواء النفوذ الإيراني والروسي، وضمان أمن إسرائيل. لذا، اتسمت السياسة الأمريكية بالتردد والازدواجية، مما ساهم في تعقيد الأزمة بدلًا من حلها.
إسرائيل: أولوية الأمن القومي والطموحات التوسعية
إسرائيل، التي طالما اعتبرت نظام الأسد حليفًا ضمنيًا بسبب استقراره على الجبهة السورية الإسرائيلية منذ عام 1974، كانت لديها مصلحة واضحة في تفتيت سوريا. تدخل إسرائيل في الأزمة لم يكن علنيًا دائمًا، لكنه اتخذ أشكالًا مختلفة مثل القصف الجوي المتكرر للمواقع الإيرانية وحزب الله داخل سوريا.
أحد الأهداف الاستراتيجية الرئيسية لإسرائيل من دعم الفوضى في سوريا أو محاولة إسقاط نظام الأسد هو قطع خط الإمداد العسكري واللوجستي من إيران إلى حزب الله في لبنان. هذا الخط الذي يمر عبر العراق وسوريا يعتبر شريان الحياة لحزب الله، حيث يوفر الأسلحة والتمويل والدعم اللوجستي الضروري لاستمرار قوته العسكرية.
لكن لا يمكن الحديث عن دور إسرائيل في الأزمة السورية دون الإشارة إلى طموحاتها التوسعية في المنطقة. إسرائيل ترى في الفوضى السورية فرصة لتحقيق أهدافها الجيوسياسية، من خلال إضعاف أي قوة إقليمية قد تشكل تهديدًا لها مستقبلاً. كما تسعى إلى استغلال حالة عدم الاستقرار لفرض وقائع جديدة على الأرض، سواء عبر تعزيز احتلالها للجولان أو عبر التأثير على الخارطة السياسية والجغرافية للمنطقة بما يخدم مصالحها طويلة المدى.
تركيا: بين الثورة والطموح
كانت تركيا، بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، من أوائل الدول التي دعمت الثورة السورية علنًا، معلنة وقوفها إلى جانب “إرادة الشعب السوري”. ومع ذلك، سرعان ما اتضح أن للطموحات التركية أبعادًا أوسع.
أنقرة سعت لتحقيق مكاسب استراتيجية من خلال توسيع نفوذها في شمال سوريا، بحجة مواجهة التهديد الكردي. تدخلها العسكري في سوريا، سواء عبر دعم فصائل المعارضة أو عبر عمليات عسكرية مباشرة، لم يكن فقط لدعم الثورة، بل لتحقيق أهداف جيوسياسية تخدم المصالح التركية أولاً.
الثورة بين القيم والتوظيف
ما بدأ كثورة شعبية سلمية تحول إلى صراع مركب بفضل التدخلات الإقليمية والدولية التي لم تنظر إلى سوريا كشعب يسعى للتحرر، بل كأرض معركة لتصفية الحسابات وتحقيق المصالح.
توظيف الثورة السورية من قبل أطراف مختلفة أضر بالقضية السورية وأضعف صوت الشعب الذي كان ينشد الحرية والديمقراطية. بدلاً من أن تكون الثورة انطلاقة نحو بناء دولة حديثة، أصبحت رمزًا لمعاناة شعب يواجه القتل والتهجير والفقر.
الخاتمة
الثورة السورية كشفت النقاب عن تحالفات دولية وإقليمية تتلاعب بمصير الشعوب لتحقيق أهدافها الخاصة. ورغم أن الشعب السوري هو الضحية الأكبر، فإن إرادة التغيير التي بدأت بها الثورة ما زالت حية، خاصة بين أولئك الذين يرون في سوريا المستقبل وطنًا حرًا وديمقراطيًا.
ولا يمكن تجاوز حقيقة أن التدخلات الأجنبية، سواء الإقليمية أو الدولية، لم يكن هدفها إنقاذ الشعب السوري، بل تحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية تخدم أجنداتها الخاصة. المطلوب اليوم هو وقف هذه التدخلات والعمل على حل سياسي يعيد للشعب السوري حقه في تقرير مصيره، بعيدًا عن أجندات القوى الكبرى والإقليمية التي استنزفت موارده ودمرت بنيته التحتية