د. عادل يعقوب الشمايله
اعتادَ الناخبونَ منذ عام ١٩٨٩ وهو العامُ الذي اعيد فيه العملُ بالانتخابات البرلمانية بعدَ أن جُمدت عقدين من الزمان بسبب الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية، على مشاهدةِ يافطاتٍ كُتبَ عليها “الاسلامُ هو الحل” باعتبارهِ البرنامجَ الانتخابيَ لتياراتِ الاسلامِ السياسي. برنامجٌ انتخابيٌ غامضٌ بل في مُنتهى الغموض مكونٌ من اربع كلمات فقط. هذا الشعار او هذا البرنامجُ كانَ ولازال يُستخدمُ كالطُعمِ الذي يستخدمهُ الصيادونَ لاصطيادِ السمك، حيثُ يعلقُ الطعمُ في اسنانِ السمكةَ ويتمُ اصطيادها قبل ان تأكلَ الطعم. وفي معظم الاحيان يكونُ الطُعمُ قطعةً من البلاسيتك على شكل سمكةِ صغيرة او حيوانً بحري أي غيرَ قابلٍ ولا صالحٍ للاستهلاك.
يبدو أنَّ الحكومةَ او الهيئة المستقلةَ للانتخابات قد أُعجبت بالبرنامج الاسلامي الغامض المختصر. فملأت الشوارع بيافطات كُتبَ عليها “الصندوقُ هو الحل”. أو أنها ارادت تحدي شعار “الاسلام هو الحل” وتقديم شعارٍ اعتقدت أنهُ افضل. أو من باب المداقره ليس الّا. وربما ظنت الهيئةُ ان البرامجَ الغامضةَ التي تستهبلُ وتستغفلُ الناخبين تكونُ اكثر جاذبيةً more attractive بدليل أن الاف الناخبين قد اقتنعوا به وداوموا على انتخابِ مرشحي التيارات الاسلامية الذين كانوا يقودوهم الى ينابيعَ جافةٍ أو بيادرَ لم يبقَ عليها ولو بعضُ التبنِ. طبعاً تيارات الاسلام السياسي تؤمنُ أيماناً يقينياً أنَّ ذاكرة الشعوب العربيةِ والاسلامية تشبهُ ذاكرةَ السمكةِ. فالسمكُ يقعُ مراراً وتكراراً في شبكات الصيد او يسارعُ لالتهام الطُعم المعلقِ بالسنارة. ولم يتعلم من التجارب السابقةِ فيهربَ من السنارة وشبكات الصيادين.
ولعلي اجدُ منَ المناسبِ ان الفتَ انتباهَ الهيئة المستقلة للانتخابات أنَّ تيارات الاسلام السياسي تُصَدِّقُ وتؤمنُ أيضاً انَّ الصناديق هي الحل، لأنَّ الصناديقَ هي التي توصلُ مرشحيهم في كل انواع الانتخابات بما فيها انتخابات مجلس النواب، ولكنها لا تعلنُ عن ذلكَ لأنها اكثر ذكاءاً من الهيئة. فالصناديقُ وليست الهدف بل الجسرُ او النفقُ الذي يوصلهم الى مقاعد مجلس النواب. في حين أنَّ الهيئةَ المستقلة للانتخابات استخدمت الصناديق بصورة مباشرة وجعلتها في الواجهةِ واعتبرتها هي الحل.
في المُقابلِ، فإنَّ المتابعَ للانتخاباتِ في الدولِ الغربية الديموقراطية المتقدمة يُلاحظُ ان المرشحين الذين يمثلون الاحزاب المتنافسة يقدمونَ برامجَ احزابهم وليس برامجهم الشخصية. برامجَ مدروسةٍ تتجاوبُ مع تطلعات الناخبين وتقدمُ حلولاً عمليةً للمشاكلِ التي يُعَانونَ منها والهموم التي تقلقهم. حيث تركزُ تلك البرامجُ على تخفيضِ معدل البطالة من خلال حفز النمو الاقتصادي ورفع معدلات نموه لخلق مئات الالاف من الوظائف الجديدةِ كُلَّ عام، محاصرةَ جيوبِ الفقرِ وتجفيفِ منابعهِ، السعي لتخفيض حِدةِ الخللِ في العدالة الاجتماعية التي تتحكمُ بها نسبُ الضرائب ومن يتحملها، هل طبقةُ الاغنياءِ كما تدعو الى ذلك الاحزابُ الديموقراطيةُ وأحزابً العمال والاحزاب ذات التوجهات اليسارية، أو أنَّ تتحملَ عبئها الطبقتان المتوسطة والفقيره كما يسعى الى ذلك المحافظون والبمينيون والجمهوريون. كما تتضمنُ البرامجُ الانتخابيةُ قضايا حماية وتحسين البيئة ومكافحة المخدرات والجريمة وفرض قيودَ على امتلاك الاسلحة، وقضايا التجارة الخارجية والحفاظ على الصناعات الوطنية ودعم الابتكار والبحث العلمي ورفع نوعية وكفاءةِ التعليم ومستوى الخدمات الصحية وشمولية التأمين الصحي وتحسين وتطوير البنية التحتية ودعم الزراعة والمزارعين وفتح اسواق للصادرات..الخ.
وتسمحُ الأنظمةُ الديموقراطيةُ للمرشحين تقييمَ وانتقادَ البرامجَ المنافسةَ لبرامجهم، بل وتقييم وانتقاد قدرات واهلية المرشحين المُنافسين ومدى صلاحيتهم وملائمتهم للمناصب التي يسعونَ لإشغالها.
في الاردن، يَتِمُّ وصفُ الدواءِ قبل معرفة المرض. وقبلَ ودونَ إثباتِ وجودِ علاقةٍ سببيةٍ بين المرض والعلاج. وعادةً ما يكونُ العلاجُ لمشاكل الاردن الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمائية والطاقةِ وأزمةِ المواصلات وارتفاع معدل البطالة والفقر وتفاقم التفاوت بين الدخول وانخفاض مستوى المعيشة وجمود النمو الاقتصادي وتجمد الرواتب والاجور “كأس من الميرمية او الجعده او الشيح” على الريق. أو تناول العسل حتى لو كان المريض مصاب بداءِ السكري. أيْ علاج موحد تقليدي غير مثبت علميا فعاليته ونجاعتهُ وملائمته ومع ذلك يوصي به تجار الطب الشعبي مرارا وتكرارا ويتناوله المستغفلون.
ومن خبرتي ورحلتي الطويلةِ بخمسةِ احزابٍ اردنية المنبع والمصب، تنقلتُ بينها وكنتُ عضواً في المكتب السياسي واللجنة التنفيذية في كل منها، فإنني اقولُ وللاسف الشديد أنني لم أجدُ أيَّ فروقَ بينها، وأنَّ برامجها لا تعدو ان تكون كمواضيع الانشاء التي كنا نكتبها ونحنُ في الصفوف الابتدائية. كما أنَّ اعضاءَ الاحزاب لا يجمعهم جامع مشترك ولا يوجدُ لديهم ولاءٌ لاحزابهم. فلكل عضوٍ هويتهُ الثقافيةُ والسياسيةُ ولهُ ولاءاتهُ العشائريةُ والجهويةُ والاقليميةُ والأيدولوجيةُ. ولذلك، فإن ٩٠ ٪ من اعضاء الحزب لا ينتخبون مرشحي حزبهم بل اقاربهم او اصدقائهم او من سيحقق لهم مصلحة شخصية او من يدفع ثمن الصوت.
كما يُلاحظُ المتابعونَ للانتخاباتِ في الدول الغربية الديموقراطية أنَّ نفقات الحملات الانتخابية تجمعها الاحزاب من تبرعات المواطنين والشركات واللوبيات واصحاب المصالح بشكل مكشوف ومقنن. وتُصرفُ الاموالُ التي تجمعها الاحزابُ على تغطيةِ نفقات المؤتمرات الانتخابية ونفقات السفر ومصاريف الدعاية لمحطات التلفزة والراديو والصحف. هذه المصاريف ضرورية للترويج للبرامج الانتخابية وتعريف الناخبين بها وبالمرشحين، وتوعيةِ الناخبين بمحاذيرِ وسلبياتِ البرامج المنافسة. ولا يُصرفُ منها على المناسف والكنافة والوربات وشراء الاصوات. وهكذا يتخذُ الناخبُ قرارهُ عندما يصلُ الى صندوق الاقتراع، على الوعي والقناعة المبنية على الارقام والبيانات والخبرة السابقة بمصداقية الحزب والمرشح ونجاعة البرنامج الانتخابي للحزب واليات تطبيقه.
على العكسِ من ذلكَ تماما، فالمرشحونَ في الاردن هم الذين يتحملون تكاليفَ الحملة الانتخابية والتي تنفق على شراء الاصوات وتقديم المناسف والحلويات. ولذلكَ، فإنَّ المرشحَ الفائز يعتبرُ نفسهُ غيرَ مرتبطٍ بعقدٍ قانوني او اخلاقي او سياسي او وطني مع من انتخبه، لأن بعض الناخبينَ خدعوه وكذبوا عليه، والافا قبضوا ثمن اصواتهم نقدا او حضروا ولائمه، او حصلوا على وساطاته قبل او اثناء الحملة الانتخابية.
لم يتغير شئٌ على العمليةِ الانتخابيةِ ومصداقيتها ونزاهتها وفعاليةِ مجلسِ النوابِ واهميتهِ ومبرر وجودهِ اصلاً وفائدتهِ للمجتمع وللعملية السياسية والتحول الديموقراطي وممارسة الادوار والوظائف الحقيقية لمجالس النواب، رغمَ تغيرِ مرجعيةِ ادارة العمليةِ الانتخابية من وزارة الداخلية الى وزارة التنمية السياسية الى الهيئة المستقلة للانتخابات. السبب أنَّ سوسةَ حفارِ الساق قد اكلت اللبَّ ولم يبقَ من ساق الشجرة سوى قشرتها الخارجية.
على الهيئة المستقلة ان تُفهمنا وتُوعينا كناخبين وتعلمنا وتقنعنا أن الصندوق هو الحل؟ حقاً وليسَ مداقرةً واستخفافاً وتخويثاً. أي ما الذي سيحلهُ الصندوق وكيف ومتى؟
وان توضحَ لنا ما هو الفرق بين دور الصندوق وقدراته في هذا الموسم الانتخابي ودور الصندوق في المواسم الانتخابية السابقة؟ أي لماذا فشل الصندوق منذ عام ١٩٨٩، بل لماذا ادى الصندوقُ الى تدهور الاردن وتراجعه واستفحال نمو الطحالب والبق وسائر الحشرات ماصة الدماء، وانَّ الصندوق هذه المرة سينقل الاردن من حال الى حال افضل وأن الصندوق قد مليء بالمبيدات الحشرية.
كما ان عليها ان توضح لنا التغيرات التي طرأت على دور ومهام مجلس النواب. وأن تقنعنا بجدوى تضحية الناخب بوقته والذهاب الى الصناديق والقاء ورقة الانتخاب؟ وما الفرق بين سعيد واسحق ولبيب وتوفيق؟
على الهيئة المستقلة للانتخابات ان تقنع الناخبين بمبرر حصول النواب على رواتبهم وامتيازاتهم وهي رواتب وامتيازات تدفع لهم من الضرائب التي يتحملها المواطن وتقتطع من دخله وعلى حساب مستوى معيشته؟
واخيرا، على الهيئة ان تخبرنا ما الذي سيخسره المجتمع لو لو يكن هناك مجلس النواب؟ وان تخبرنا بصدق هل ستعلن نتائج للناجحين في الانتخابات حتى ولو لم تتجاوز نسبة المشاركين في التصويت الصفر، اي في حال حدوث مقاطعة كاملة للانتخابات؟ وهل ذهاب او عدم ذهاب الناخبين لصناديق الاقتراع سيؤثر فعلياً على قائمة الناجحين التي يُقال انها تكون جاهزةً سلفا قبل موعد الانتخابات سواءا انتخب الناس ام لم ينتخبوا؟
وارجو ان احيط الهيئة المستقلة للانتخابات انني لن انتخب اي مرشح ولن اذهب لصناديق الاقتراع الا اذا اجابت على اسئلتي واقنعتني ان لصوتي اهمية وتأثير ايجابي.