بقلم المهندس خالد بدوان السماعنة
بداية أنقل كلمات للإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- يقول فيها: “ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي، والملاحم، والتفسير”.
فماذا يعني بذلك الإمام أحمد ؟
يعني حجم الكذب الكبير والروايات الباطلة الكثيرة في هذه المواضيع الثلاثة، وأن ما يصح فيها من الأخبار قليل جداً.
وفي هذه الأيام – كالمعتاد – ولدى ظهور الأزمات وانتشار الظلم والجور تتشوق الأنفس إلى فسحة أمل، وترنوا صوب شخصية المخلص، فتبدأ بتناقل الأخبار والروايات العجيبة الغريبة، كما نسمع اليوم عن ” أصحاب الرايات السود”، وشخصية “السفياني” و “اليماني” وغير ذلك من الأساطير.
واختياري لموضوع السفياني بالذات لأنني بدأت اشاهد واسمع أبواقا خبيثة تحاول إلصاق هذه الشخصية بالأردن تحديدا انسجاما مع غايات خبيثة عند بعض من يجاورنا أو خلاياهم الميتة لدينا في الأردن حماه الله.
من الجدير بالذكر أن روايات ظهور المدعو السفياني متعددة في كتب الفتن والملاحم، بل تستطيع أن تؤلف منها كتابا كاملا.
وعلى سبيل المثال -لا الحصر- فالروايات الواردة في أصحاب الرايات السود كثيرة جدا ومن أشهر الكتب جمعا لها كتاب نعيم بن حماد (الفتن)!؛ لكن للأسف لن تجد فيها حديثا صحيحا واحداً يصلح للاحتجاج به. بل ولا حتى أثرا صحيحا موقوفاً على الصحابة.
طبعا هذا ليس كلامي أنا .. بل كلام جهابذة أهل العلم السابقين.. انظر مثلا كلام الإمام ابن الجوزي في “العلل المتناهية”، والطبراني والبيهقي وغيرهما. وقد قوت كلمات الإمام البيهقي منحى مفاده أن أصل هذا الحديث من الإسرائيليات.
نعود إلى محور مقالنا وهو “السفياني” فإن أهل الاختصاص قالوا: ليس في أحاديث السفياني مايمكن أن يقال عن ظاهره أنه مقبول إلا حديث واحد يروى بالسند عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة –رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:” يخرج رجل يقال له السفياني في عمق دمشق، وعامة من يتبعه من كلب، فيقتل حتى يبقر بطون النساء، ويقتل الصبيان، فتجمع لهم قيس، فيقتلها … ويخرج رجل من أهل بيتي في الحرة، فيبلغ السفياني، فيبعث إليه جنداً من جنده، فيهزمهم، فيسير إليه السفياني بمن معه، حتى إذا صار ببيداء من الأرض، خُسف بهم، حتى لا ينجو منهم إلا المخبر عنهم”. وهذا الأثر أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه على شرط الشيخين، ولم يتعقبه الذهبي.
والصحيح -والله اعلم- أنه أثر لم يصح لوجود راو فيه مشهور بالتدليس، وقد وقفت على بحث مفصل في هذا الأثر للعلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني يضعف فيه هذه الرواية “السلسلة الضعيفة ” (6520) .
لكن الخسف المذكور في آخر هذه الرواية قد صح وفيه يقول العلامة الألباني: ” صح من حديث حفصة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( ليؤمَّنَّ هذا البيت جيش يغزونه، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض، يخسف بأوسطهم، وينادي أولُهم آخرهم، ثم يخسف بهم ، فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم ). رواه مسلم وغيره، وهو مخرج في “الصحيحة” (1924 و 2432) ” انتهى.
وفي ذلك يقول الشيخ حمود التويجري -رحمه الله- في كتاب “إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة” (1/63): ” لم يجئ في خروجه –يعني السفياني- حديث صحيح يعتمد عليه ” انتهى.
وفي هذا يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في مجموع فتاواه (2/62): “حديث السفياني أخرجه الحاكم في مستدركه، وقال : حديث صحيح الإسناد، ولكن الحاكم -رحمه الله- معروف بالتساهل في التصحيح”انتهى .
إن قضية إسقاط أحاديث الفتن على الأسماء والأشخاص قضية غاية في الخطورة، لأن هذا الإسقاط ينبني عليه أحكام من الحلال والحرام، والإقبال والإحجام، وقد ينبني عليه استحلال دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، فصار لا بد من ضبط ذلك بضوابط واضحة، وأن لا يترك هذا الأمر للمبتدئين والمتعجلين، لأن هذا من أخص وظائف العلماء الراسخين في العلم، ولا يكون إلا من خلال اجتهاد جماعي تشاوري، ليصار إلى الجمع بين اعتبار الألفاظ والمعاني، والحال والمآل. فأحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة من المغيبات التي لا مجال للرأي فيها، فهي متوقفة على النص وما يحتف به من القرائن الواقعية التي تعين على فهم المراد من النص.
وكما قال القرطبي -رحمه الله- في هذا الباب :”أن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن والكوائن أن ذلك يكون، وتعيين الزمان في ذلك من سنة كذا يحتاج إلى طريق صحيح يقطع العذر، وإنما ذلك كوقت قيام الساعة؛ فلا يعلم أحد أي سنة هي ولا أي شهر”.
والخلاصة .. لا وجود للسفياني ولا علاقة للأردن به.