كتب خالد بدوان السماعنة: استوقفني كتاب باللغة الإنجليزية لمؤلفه “أنتوني لوينشتاين” عام 2021 تحت عنوان « المختبر الفلسطيني .. كيف تصدر إسرائيل تكنولوجيا الاحتلال حول العالم؟».
هذا المؤلف يهودي ملحد – كما يقول هو عن نفسه في مقدمة كتابه هذا – ويضيف على ذلك بأنه مواطن أسترالي وألماني بسبب هروب عائلته من أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية.
يقول هذا المؤلف – وساحاول أن انقل كلامه بعد ترجمته : ” …عندما بدأت تقديم التقارير عن إسرائيل/فلسطين لأول مرة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت تلك الأيام الأولى للإنترنت، ونادرًا ما سمح حراس بوابة وسائل الإعلام الرئيسية بسماع أصوات أكثر انتقادًا للاحتلال الإسرائيلي.
لقد نشأت في منزل صهيوني ليبرالي في ملبورن، أستراليا، حيث لم يكن دعم إسرائيل دينًا مطلوبًا ولكنه كان متوقعا بالتأكيد.
كان أجدادي قد فروا من ألمانيا النازية والنمسا في عام 1939 وجاءوا إلى أستراليا كلاجئين. وبالنسبة لهم -على الرغم من أنهم لم يكونوا صهاينة متحمسين- كان من المنطقي النظر إلى إسرائيل باعتبارها ملاذًا آمنًا في حالة نشوب صراع مستقبلي للشعب اليهودي.
على الرغم من هذه المشاعر السائدة في المجتمع اليهودي في معظم أنحاء العالم، سرعان ما شعرت بعدم الارتياح تجاه كل من العنصرية الصريحة ضد الفلسطينيين التي سمعتها والدعم غير المحسوب لجميع الإجراءات الإسرائيلية.
لقد كان الأمر أشبه بعبادة يتم فيها إدانة الأصوات المعارضة وإقصائها. أتذكر أصدقائي اليهود خلال سنوات مراهقتي، الذين رددوا ما سمعوه من والديهم والحاخامات. رغم أن القليل منهم كان قد ذهب إلى إسرائيل – ناهيك عن فلسطين- لكن السرد السائد كان مبنيًا على الخوف؛ وكان اليهود يتعرضون للهجوم باستمرار وكانت إسرائيل هي الحل.
بغض النظر عما كان على الفلسطينيين أن يعانوا من أجل جعل اليهود يشعرون بالأمان، لكن هذا بدا وكأنه درس منحرف من المحرقة.
بحلول الوقت الذي زرت فيه الشرق الأوسط للمرة الأولى في 2005، كنت لا أزال أحمل الأوهام حول إسرائيل وفلسطين. قلت إنني أؤمن بحل الدولتين وحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية مع أني الآن لا أؤيد ذلك.
في السنوات التي تلت تلك الرحلة الأولية، قمت بتغطية الأحداث من الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، ووثقت القبضة الإسرائيلية المتزايدة على فلسطين. عشت في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية بين عامي 2016 و2020 وشاهدت بانتظام الشرطة الإسرائيلية تضايق الفلسطينيين وتهينهم.
لقد كانت وطأة الاحتلال اليومية مرهقة لأولئك الذين لم يكونوا يهودًا. لقد جعلني ذلك أشعر بالخجل مما يحدث باسمي كيهودي.
اليوم أنا أؤيد حل الدولة الواحدة للصراع حيث يمكن لجميع مواطنيها العيش على قدم المساواة.
هذا التغير في تقييمي للأمر خلال العشرين عامًا الماضية يعكس حالة الوعي العالمي المتزايد بما كانت عليه إسرائيل دائمًا وإلى أين تتجه.
لقد بدأ التحول في النقاش العام حول هذا الأمر وبشكل ملحوظ منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بسبب الحقائق التي فرضت نفسها على الأرض.
أصدرت منظمة “B’Tselem” – الرائدة في مجال حقوق الإنسان في إسرائيل- تقريرا في أوائل عام 2021 خلص إلى أن “نظام التفوق اليهودي من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط هو “نظام للفصل العنصري””. وسرعان ما حذت “هيومن رايتس ووتش” و “منظمة العفو الدولية” حذوها بعد فترة وجيزة.
أكثر من نصف قرن من الاحتلال وهذه التقارير البارزة أحدثت فرقاً. وعلى الرغم من أن الفلسطينيين ظلوا يرددون ذلك لعقود من الزمن، إلا أن التحول استغرق بعض الوقت حتى وصل إلى النخب والشعوب الغربية. لقد أصبح من المستحيل الآن إنكار العداء لليبرالية إسرائيل، ولم يعد العديد من الليبراليين الغربيين يشعرون بأنهم مقيدون من قول ذلك. لقد اتفق ربع اليهود الأمريكيين في استطلاع عام 2021 على أن إسرائيل دولة فصل عنصري. وحتى ناشر صحيفة هآرتس -الصحيفة الأكثر تقدمية في إسرائيل – وإن كانت صهيونية، إلا أنه لم يملك إلا أن يعترف بذلك.
وكان مما كتبه “عاموس شوكن” في عام 2021 قوله: “إن نتاج الصهيونية – هو دولة إسرائيل – ليست دولة يهودية وديمقراطية، بل أصبحت بدلاً من ذلك نموذجا لدولة فصل عنصري، بكل وضوح وبساطة”. ويقول: “يمكن للمرء أن يقول أشياء كثيرة عن هذا، لكن لا يمكن للمرء أن يقول إن إسرائيل التي اوجدتها الصهيونية هي دولة يهودية وديمقراطية.”
إن ادعاء إسرائيل بأنها دولة ديمقراطية مزدهرة في قلب الشرق الأوسط تحدي صارخ لكل الحقائق. فبدءا من جميع وسائل الإعلام في إسرائيل ومرورا بالناشرين والمؤلفين لن يسمح بنشر اي شيء قبل أن يمر بوزارة الخارجية ورئيس الرقابة العسكرية في جيش الدفاع الإسرائيلي ويتم الموافقة على نشره. ولا توجد دولة غربية في العالم لديها مثل هذا النظام. إنها طريقة قديمة بدأت بعد وقت قصير من ولادة إسرائيل.
بل وتتمتع هذه الرقابة الصارمة بسلطة حجب المحتوى بالكامل أو تنقيحه جزئياً. وما يراه الضوء من هذا المحتوى مشكوك فيه إلى حد كبير نظرًا لأن أولويات مؤسسة الأمن القومي ستكون مختلفة تمامًا عما هو مطلوب لدولة صحية وديمقراطية.
لعقود من الزمن كان اليهود وحدهم هم الذين يناقشون قضية إسرائيل وفلسطين في وسائل الإعلام الغربية. لقد تم الحديث عن الفلسطينيين المحتلين !! لكن في المقابل لم يتم الاستماع إليهم. ولقد كشفت دراسة أجرتها “مها ناصر” من جامعة أريزونا عام 2020 عن هذا الإسكات.
لقد كتب الفلسطينيون أقل من 2% من مقالات الرأي في صحيفة نيويورك تايمز بين عامي 1970 و2020، وكانت النسبة 1% في صحيفة واشنطن بوست.
اليوم بات من المألوف أن نسمع ونرى الفلسطينيين، من “نورا عريقات” إلى “يوسف منير” إلى “محمد الكرد”، يقدمون وجهة نظر مختلفة تعكس وجهة النظر الفلسطينية. لكن لا يزال أي تحقيق صحفي من فلسطين يمثل تحديًا.
“أحمد شهاب الدين” صحفي أمريكي من أصل كويتي أخبرني عن العمل على قصة لـتقرير صحفي تم اعداده في عام 2015 والذي ظهر فيه مستوطنون سويديون وهم يدمرون منزل عائلة فلسطينية في حي سلوان بالقدس الشرقية. وقام طاقمه بتصوير المستوطنين وهم يرمون ألعاب فتاة فلسطينية خارج المنزل، ويزيلون الأنابيب ويدمرون الأثاث. فقام رئيس التحرير بقص المشهد. وقيل لشهاب الدين: “يا صديقي، المستوطنات مثيرة للجدل إلى حد كبير”. “يعتبرها البعض غير قانونية، لكن إسرائيل لا تراها كذلك. لذلك لا يمكننا إظهار هذه المواجهة لأنها ستجعلها تظهر الكثير من حجة أحد الطرفين وتزيد من تعقيد القصة المعقدة بالفعل”.
إن معاملة إسرائيل القاسية للفلسطينيين والتنميط العنصري الذي تدعمه الدولة جعل الفلسطينيين يحظون بشعبية كبيرة حتى بين الجماعات التي تكره اليهود تقليديا.
لقد شوهد علم إسرائيل في المسيرة التي جرت في 6 يناير 2021 خارج مبنى الكابيتول الأمريكي قبل اقتحامه من قبل المتظاهرين اليمينيين. لقد تم تعليقه بجانب العلم الكونفدرالي في جميع أنحاء الولايات المتحدة. ومتظاهرون من اليمين المتطرف في المملكة المتحدة وألمانيا ودول أخرى يلوحون بالعلم الإسرائيلي في المسيرات.
كان زعيم اليمين اليهودي، “ريتشارد سبنسر”، مفرطًا في تأييده لإسرائيل في عام 2018، قائلاً: “إن اليهود، مرة أخرى، في الطليعة، ويعيدون التفكير في السياسة والسيادة من أجل المستقبل، ويظهرون هذا الطريق بشكل واضح للأوروبيين”.
لقد أدلى بهذا التصريح في أعقاب قانون الدولة القومية الإسرائيلي، الذي أضفى الطابع الرسمي على التفوق اليهودي على أي وهم بالديمقراطية لجميع مواطنيها. وقد أطلق سبنسر على نفسه لقب “الصهيوني الأبيض”.
لقد كان يستغل الاعتقاد السائد بين عناصر اليمين المتطرف بأن إسرائيل في طليعة المدافعين عن الحضارة الغربية ضد جحافل المسلمين. وأن العلمانية ستحول دون التعاون الوطني الناجح. فالتدين هو الهدف. تدافع الدولة اليهودية بفخر عن حدود قوية، وترفض محاولات الهيئات الدولية الحاكمة -مثل الأمم المتحدة- التدخل في شؤونها، وتروج لنفسها كدولة للشعب اليهودي.
قبل كل شيء. كان المفكر الفلسطيني “إدوارد سعيد” واضح المعالم بشأن الأصول الحقيقية للدولة اليهودية. ولقد كتب في عام 1984 قوله: “كانت الصهيونية بمثابة زهرة دفيئة نمت من القومية الأوروبية ومعاداة السامية والاستعمار، في حين أن القومية الفلسطينية المستمدة من موجة كبيرة من المشاعر العربية والإسلامية المناهضة للاستعمار ظلت مستمرة منذ عام 1967، على الرغم من أنها مشوبة بالعقيدة الرجعية”. انتهى
“شير حيفر” هو أحد الخبراء الأكثر بصيرة في الجوانب الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي. وأخبرني أن مصنعي الأسلحة الإسرائيليين يبيعون رسالة معينة تعكس التجربة الحية في معاملة الفلسطينيين بوحشية. وقال: “إذا استمعت إلى شركات الأسلحة [الإسرائيلية] نفسها عندما تذهب إلى أوروبا لبيع منتجاتها، فإنها تستمر في تكرار نفس الشعار”، “يقولون إن هؤلاء الأوروبيين ساذجون للغاية. يعتقدون أن بإمكانهم التمتع بحقوق الإنسان. يعتقدون أن بإمكانهم التمتع بالخصوصية، لكن هذا هراء. نحن نعلم أن الطريقة الوحيدة لمحاربة الإرهاب هي الحكم على الناس من خلال مظهرهم ولونهم. من خلال جلدهم.”
والكلام له بقية في زمن قادم بإذن الله