بقلم الدكتور مصطفى التل
الثقافة الإسلامية من أعلى الثقافات العالمية سمواً ومن أغناها في الموروث الثقافي الفكري : فالثقافة الإسلامية متجذّرة في عمق الماضي , أبعادها الحقيقية ضاربة في الإنسان ثقافة وفكراً واجتماعاً , فهي متأصلة في الفرد المسلم , وتمتد على طول مساحة الكرة الأرضية المعروفة , وتبسط أجنحتها على المجتمع المسلم , بشقيه : المسلم ديانة والمسلم حضارة -وهو الذي يدين بغير الإسلام ولكنه يتأثر ويؤثر في الثقافة الإسلامية ويعيش تحت ظل هذه الثقافة – .
فهي موثّقة للتواصل , وموثّقة للفكر , وموثّقة للثقافة , ومعززة للتماسك الاجتماعي الفكري في المجتمع برمته على اختلاف طوائفه.
فهي غير متفردة بذات إنسانية تميّزها عن بني مجتمعها , وإنما هي صبغة عامة لمجتمع بأكمله , فهي تبني الذات من خلال ترابط أواصر العرى بين بني المجتمع الواحد . وعابرة لأجيال متعاقبة , غير متوقفة عند جيل بعينه , وتمتاز بأنها حق لجميع المجتمعات بدون استثناء .
الثقافة الإسلامية من خلال خطواتها المديدة عبر القرون المختلفة , تتبنى ثقافة كرامة الإنسان , بمختلف أديانه , ومختلف توجهاته الاعتيادية, فهي الكافلة لحريته وحقوقه , والكافلة لآدميته , تنطلق من منطلق انساني , لا منطلق حامل الخطيئة ووارثها, ولا منطلق شعب الله المختار الذي يحتقر كل بني آدم على وجه البسيطة , ولا منطلق الإنسان الحيواني الناطق .
في عصر داعش وأخواتها, واستخدام مصطلح الدعشنة للمخالف سواء في المنظومة الثقافية أو المنظومة الأخلاقية , ازداد وطأة الظلم للثقافة الإسلامية , وازداد الازدراء لمصطلحاتها ومفاهيمها.
ذلك أن بعض المنظومات الثقافية الضيقة الخارجة عن المجتمع الاسلامي ديانة وحضارة , وجدت في الدعشنة حل واسقاط لأي خلاف يكون من منطلق فكري , أو منطلق ثقافي , ذلك أنها استباحت لنفسها ومنظومتها الفكرية والأخلاقية , أن تحدد ما هو المناسب من الثقافة الإسلامية للاستخدام وما هو الغير مناسب الواجب الإسقاط , فما كان على منهج منظومتها فهو صالح للاستخدام حسب محدداتها , وما هو على خلاف منظومتها الفكرية والثقافية والأخلاقية , فهو مفهوم داعشي واجب الإسقاط على إطلاقه , هذه المنظومات الفكرية وضعت نفسها حاكما وقاضيا على الثقافة الإسلامية , على الرغم من أنها لا تمت للإسلام بصلة لا ديانة ولا حضارة .
على المستوى الجمعي للأمة الإسلامية , هذا العقل الجمعي , آثر الانسحاب من المشهد الفكري والثقافي , مستسلما لما يحدده الغير من مفهومات في ثقافتنا الفكرية الإسلامية , واضعا نفسه موضع الإسفاف الثقافي والفكري, متموضع في استماتة الدفاع , ونفي الشبهات عن نفسه ولو أدى ذلك إلى اضمحلاله وذوبانه وسط المنظومات الفكرية المتعددة التي وضعت نفسها معيارا لأي مفهوم حضاري وفكري إسلامي , خوفا من الاتهام بالدعشنة .
حقوق الانسان كمصطلح في الثقافة الإسلامية , أسيء فهمه وتم ازدرائه , وأصبح خاضعا لمفاهيم دخيلة على هذه الثقافة الإسلامية , ويجب على العقل الجمعي الإسلامي أن يتقبل هذا المصطلح كما ورد من المنظومات الفكرية التي وضعت نفسها قاضيا على ثقافتنا الإسلامية , وأي خروج عن هذا المفهوم المستورد , هو دعشنة , وجب محاربته واستئصاله من الوجود , لأنه ببساطة شديدة يتعارض مع تلك المنظومات الفكرية المستوردة .
حفظ الدين للإنسان من أي مؤثرات خارجية إجبارية وملوثة له, هو من حقوق الإنسان العالمية في الثقافة الإسلامية , وجب الحفاظ عليه بمختلف السبل والطرق , وترك التدين بدون أي مؤثرات تؤثر في هذه الحرية, منها منع الشتم الذات الإلهية أو التعرض لأي مقدس تهكماً ومنع شتم أي مقدس لأي دين آخر في المجتمع المسلم , حتى لا يكون هذا المقدس مستحقر عقليا وفكريا عند معتنقيه , قابله في المفهوم المستورد من منظومات فكرية خارجية مفهوم ( حرية الاعتقاد ) حسب قواعدهم الخاصة , على الرغم من أن مفهوم ( حرية الاعتقاد ) و ( حرية التدين ) غير مطبق و غير مسموح به في المجتمعات التي تتبنى هذه المنظومات الفكرية التي تدعي أنها تحميه , ولنا في الصين خير مثال , وفي ايطاليا وقوانينها التي تعاقب على ( التجديف ) بدون إقامة دعوى شخصية مثال واضح وضوح الشمس , وفي هولندا التي تسمح بحرق القرآن الكريم جهارا نهارا بدون أي مسائلة قانونية تذكر , وفي الولايات المتحدة الأمريكية التي تسمح وتحمي التمييز الديني بامتياز , وفي بريطانيا التي تحمي كل منتقد للدين الإسلامي وشاتم لرسولها صلى الله عليه وسلم , وتعتبره مضطهد يجب أن تحميه , وفرنسا التي تبنت منظومة فكرية اقصائية للدين الإسلامي بكل وضوح .
وهنا تثار قضية السيف والجهاد في سبيل نشر الدين وحمايته , على أنه دعشنة , ويجب إسقاط المفهوم بالكلية باعتباره مصادم لمفهوم ( حرية الاعتقاد ) و ( حرية التدين ) حسب قواعد المنظومات الفكرية المستوردة , والتي للأسف الشديد العقل الجمعي الإسلامي أصبح مستسلما لها , حتى انه في بعض الأوقات وضمن آراء شاذة معدودة , حاولت إنكار الجهاد ومفهومه في الشريعة الإسلامية , في سبيل دفع تهمة الدعشنة عن هذا العقل الجمعي الإسلامي .
وحقيقة الجهاد هو أنه لا يعدو أن يكون دفع عدو أو إزالة حاجز يشكل عائق في طريق حرية التدين , إذ أن بعض المنظومات الفكرية لبعض الدول والمجتمعات, تمنع على أفرادها حرية اختيار الدين بحرية تامة – والذي تعتبره الثقافة الإسلامية حق انساني طبيعي للإنسان ويجب تحقيقه على المستوى العالمي – لا بل تمنع الإنسان من الاعتقاد بما يقتنع به, فجاء الجهاد لإزالة هذا العائق وحماية هذا الحق , وترك الإنسان بحرية تامة لاختيار الدين الذي به يقتنع , بدون اجبار ولا اكراه , فبعد ازالة هذا العائق , تترك للإنسان حرية الاختيار , هل يدخل في الإسلام مقتنعا , أم يبقى على دينه كما يريد , وله الحماية والكرامة والإعانة , والمساواة والعدل , فأين الدعشنة في هذا …؟!!!
الإساءة والازدراء لمفهوم حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية , فقد جاء نتيجة قصور المنظومات القانونية في دول العالم الإسلامية عن تحقيق المفهوم كما يريده الإسلام في ثقافته للمجتمع .
فبعض المنظومات القانونية في بعض البلاد الإسلامية صادمت المفهوم العام للثقافة الإسلامية في هذا المصطلح , وبعض المنظومات الأخرى كانت عاجزة عن إدراك المفهوم بكليته في الثقافة الإسلامية .
فعلى سبيل المثال : النسل للبشرية جمعاء , من أولى أولويات الثقافة الإسلامية كحق إنساني عام عالمي , والحفاظ عليه في بيئة نقية وسط أسرة متماسكة تتكفل بالحفاظ على الطفل ورعايته وحفظ كرامته الحالية والمستقبلية كإنسان , هو حق إنساني عالمي , يجب تحقيقه , وحقيقة حفظ النسل , هو حق متقدم على حفظ الطفل قبل قدومه .
فمن حق الطفل أن يجد أبوين اجتمعا في أسرة , تحفظ له نسبه , وتحفظ له سمعته , وتساعد على تكوين شخصيته المستقبلية بدون أي شروخ نفسية , فمنعت الثقافة الإسلامية الزنا , واعتبرته اعتداء على هذا الحق الإنساني الشريف , واعتبرته اعتداء على حق الطفل بحد ذاته المستقبلي في حفظ نسبه , بينما صادمت بعض القوانين هذا المفهوم , وانصاعت للمفهوم المستورد الخارجي والتي اعتبرت أن الزنا حق من حقوق الإنسان , ولكل طرف الحق بممارسة حياته الجنسية وفق ما يرغب , فقفزت من حق الإنسان الطبيعي في النشوء في أسرة متماسكة , إلى مسألة حق الطفولة ورعايته عندما يجيء من زنا أو غيره .
وهي بذلك التفت إلى الثمرة من الشجرة بدون غرس الشجرة وسقايتها بماء النقاء والعفة , وليعيش هذا الطفل طيلة حياته وسط مستنقع عفن , مع العلم أن حقوق هذا الطفل في الشرع الاسلامي تفوق الوصف , لا يمكن حصرها في صفحة أو صفحتين .
بينما في بعض القوانين الأخرى في بعض الدول الإسلامية , جعلت المرأة مجرد سلعة في بيتها , لا رأي ولا مشورة ولا حق , هذه القوانين أخذت القشور من ( حقوق الانسان ) في الثقافة الإسلامية , وتركت الجوهر , فحثّت على تكوين أسرة , ولكنها فرّطت في حق المرأة في أسرتها ودورها في استقرار هذه الأسرة, فكانت قاصرة عن مفهوم حقوق الإنسان في الثقافة الإسلامية بشكل عام .
هذا القصور في شقيه الأول والثاني , أنتج قصور في العقل الجمعي المسلم المعاصر , ووضعه موضع صراع عنيف مع مفهوم ( حقوق الإنسان ) في منظومات فكرية مستوردة , مما أوجد عنده حالة من عدم الاستقرار , ووضعه موضع الشك من منظومته الثقافية بشكل عام , ووقع ضحية بين مفهومين متضادين , مفهوم دعشنة هذا الفكر أو ترك هذا الفكر لمنظومة فكرية خارجية تهندّس له منظومته الفكرية الإسلامية .
– من أين جاء هذا القصور والانحراف بالمفهوم العام ..؟؟؟
هذا القصور والانحراف لمفاهيم الثقافة الإسلامية العالمية , جاء من طرفين : متحامل على الموروث الثقافي العام للثقافة الإسلامية نتيجة تأثره بمنظومات فكرية خارجية متحاملة على هذا الموروث , و متطفل متسلق على هذا التراث الثقافي , لا يعرف عنه إلا من خلال منظور منظومة فكرية ثقافية خارجية تطفل عليها أيضا , بدون وعي ولا إدراك منه للمنظومتين .
كلا الطرفين منهزمون ثقافيا وفكريا , ومنكسروا الذات , ومنكروا الانجاز , ومتسلقين على حائط منظومات فكرية لا يمتون لها بأي صلة , لا هم عرفوا ثقافتهم الأصيلة , ولا هم كسروا ثقافتهم الدخيلة .
نظروا الى ثقافتهم الفكرية نظرة دونية مسبقا , وقرروا أن هذه المنظومة الفكرية الثقافية قد صادرت حريتهم , ووضعت عليهم الكثير من الأغلال , من خلال : علاقتهم مع مجتمعهم الذي أصبح غريبا عليهم , علاقتهم مع منظومات أخلاقية أصبحت عائقا أمامهم وتحد من رغباتهم الذاتية , علاقتهم مع منظومة الانجاز بشكل عام في مجتمعهم .
انفتحوا على منظومات فكرية ثقافية خارجية بشكل فوضوي , انطلقوا فيها دون أي منهجية واضحة , تحيّزوا إليها بدون وعي وإدراك , وانبهروا بتداعياتها, منكسرين تحت راياتها رغما عنهم , كأنهم صم بكم لا يسمعون .
وضعوا أنفسهم وما يحملون من ازدواجية المفاهيم العامة , موضع الانتقاص الذاتي المستمر , وشعورهم بالدونية الفكرية والثقافية عن غيرهم من متبعي منظومات فكرية أخرى , مما أثر سلبا على احترامهم لذاتهم الفكري , واحترامهم واعتزازهم بمنظومتهم الفكرية الأصيلة , مما أدخلهم في قناعة تامة أن منظومتهم الفكرية الأصيلة فاشلة , والتي بدورها لعبت دورا محوريا في إفشالهم , من باب الإسقاط في علم النفس , وبالتالي يجب العمل على التخلص من هذه المنظومة الفكرية التي أتعبت عقولهم وأثقلت كاهلهم , وعملت على تكريس دونيتهم الفكرية الثقافية كما يعتقدون .
وكوّنوا مجتمع فكري منهزم , منكر لذاته , منكر لأمته الفكرية , وكوّنوا بيئة ذل وانكسار فكري ثقافي , وأقنعوا أنفسهم أنهم لا يستطيعون الخروج من هذه البيئة الفكرية الثقافية الانهزامية الذليلة .
فوطّنوا أنفسهم على الانهزام الفكري الثقافي , وامتهنوا المقدسات الفكرية الثقافية , وانتهكوا المحرمات الفكرية الثقافية , وتقبلوا الهزيمة بكل أنواعها , فرفضوا أي مسؤولية قيادية في المنظومة الفكرية الثقافية ولو جزئيا , وتهربوا من أي أمر له مسؤولية وتبعات في هذه المنظومة الفكرية , هربا من أي تبعات قد تقع على عاتقهم , لانهزامهم المتوطن في فكرهم الثقافي .
هذا المجتمع الفكري الفاشل الذي كوّنوه , وضع نفسه حكما على المنظومة الفكرية الثقافية الإسلامية العالمية , ما وافق هواهم فهو المقبول , وما خرج عن منظومتهم الفاشلة , هو فكر داعشي يجب استئصاله .
انتهي من هذا الجزء ..ونلتقي في الجزء الثاني إن شاء الله والذي يدور حول ( المنظومة الفكرية الثقافية الإسلامية وإشكالية الحداثة الليبرالية كمنظومة فكرية ثقافية ) .