أكتبُ لأجل أن يعرفَ المستقبل والحاضر .. ماضينا السوري.
أكتبُ لجيلٍ يقف متأرجحاً بين البلد والغُربة.
أدغدغ ذكريات طفولية مَضَت، حيث كانت أحلامنا لا تتجاوز “الشيطنة الصبيانية”.
من منّا في طفولته لم يجلس على درج أو عتبات مسجد أو كنيسة؟
من منا لم يلعب في فسحات حاراته؟
ومن لم “يُطبِّش” ببرك ماء المطر في أزقّة مدينته؟
من منّا لم يجلس على كرسي القش الصغير وهو يسهر مع أهله؟
أحلم كيف كان أهلنا يتسامرون، وكيف كانوا يحلمون، بحاضِرهم وبمستقبلهم، وكنت أنام وحكايا جدتي تستيقظ من خلال الأحلام، فأتخيل نفسي جالساً على الدرجات نفسها، حتى كبرتُ قليلاً وأصبحتُ – عندما أمرّ مع أترابي في الساحة التي عاصرت طفولتي – أجلس على الدرج قليلاً على أساس أني أرتاح، دون أن يعرف أصدقائي السبب الحقيقي لهذه الجلسة وما تعنيه من أحلامِ طفولة.
بعد سنوات طويلة، أصبحت ساحاتنا مهجورة، وأحلامنا حزينة.
أحياناً أتردّد مع مجموعة من الأشخاص على بعض ساحات وأزقة وأماكن ومساجد وكنائس حضنت ذكرياتنا، ونجلس في الساحات والصغار والمراهقين من كلا الجنسين يلعبون ويجلسون ويكرّرون طفولتي ومراهقتي و “طيشنتي”.
أجلس مُشبِعاً أحلام طفولتي ومراهقتي وحكايا جدتي، وأتطلع الى الأطفال والمراهقين والشباب، وأسألُ نفسي: أي مستقبلٍ ينتظرون، وكل أسبوع تغادرنا عائلات الى بلدان شتّى، كل أسبوع نسأل نفس السؤال، مَن سافَر هذه الأيام؟
أستغرب هذا الكمّ الهائل من شبابنا الجامعيين الذين يخبرونني أنهم يدرسون اللغة لأجل الهجرة.
أعذرُ من غادر ومن سيغادر وأتفهّمه.
وأتفهم أنهم هاجروا لكي لا يعودوا، وأتفهم لماذا لن يعودوا، على عكس ما يُطبل ويزمر الكثير عن العودة.
أتفهم عدم استطاعتهم أن يتحمّلوا الكثير من الضغوط النفسية والمادية.
أتفهم الخوف من المستقبل المجهول لهم ولأولادهم.
أتفهم عدم تحمّلهم لكذبِ بعض المسؤولين السياسيين في وعودهم البراقة.
أتفهم خوفهم من الأحداث والأزمات التي لا نعرف إلى أين ستقودنا.
أتفهم “قَرَفِهم” من بعض مسؤوليهم الروحيين الذين ما صنعوا الكثير لهم أيام الرخاء ليساعدهم على البقاء، وهم اليوم يطالبوهم اليوم بالبقاء تحت مسمّيات شتّى، بدءاً من الوطنية وانتهاءً بالتشبث بأرض المسيحية والأجداد، ولكنهم يعرفون أنهم يدافعون عن بقائهم وخوفهم من أن يصبحوا خيال مآتة يحمون كنائساً بدون شعب.
الهجرة تضرب كل الطوائف والمكوَّنات ولكنها أصابت في المسيحية طعنتها النجلاء.
ففي مدينتي “حلب” أصبح المسيحيون لا يتجاوزون الاثنين والعشرين ألفاً.
وفي سورية كلها يتراوح – برأي ومن مصادر موثوقة – حول سبعمائة ألف بأحسن وأحسن الأحوال الأحوال.
أتفهم أن الغلاء طحنهم.
وأن فقدان مقومات الحياة الدنيا قد أرهقهم.
وأن الخوف من كونهم حطباً لأتون هذه الحرائق، هو الذي جعل الهجرة خيارهم.
إذهبوا …. وأنا أعرفُ أنكم لن تعودوا.
إرحلوا .. ولا تلتفتوا إلينا.
إبنوا مستقبلكم بعيداً عن الكذب والغشّ والخداع من بعض المسؤولين السياسيين والروحيين وحتى الرياضيين.
ولكن لا تنسوا حليب هذه الأرض ولا طرقاتها ولا أرصفتها ولا طيبتها.
فانشروا طيبتها من خلالكم، وكونوا سفراء نكهة سورية في مغترباتكم.
وعلّموا أولادكم أن لهم أهلاً بَقوا في سورية لأنهم لم يستطيعوا الرحيل.
ولأن دَرج كنائسهم ومساجدهم يشدّهم إليه.
اللهم اشهد اني بلّغت