د. عادل يعقوب الشمايله
ما نسمعهُ من تهديداتِ قادةِ الكيانِ الصهيوني بأنَّ حربَ غزة لن تنتهي الا بالقضاءِ على حركةِ حماس نهائيا، وهزيمةِ الروحِ والإرادةِ العسكريةِ الفلسطينية، وأنَّ وقفَ اطلاق النار بدونِ دخولِ رفح يعني هزيمةَ اسرائيل. هذه التهديدات التي تتكررُ معاندةً العالمَ كلهُ ليست مُجَرَدَ اقوال تُعَبرُ عن الحماقةٍ والغطرسةِ التي اشتهرَ بها الكيانُ الصهيوني قادةً وافراداً، أو رداتِ فعلٍ غاضبةٍ ومؤقتةٍ سَبَّبها حجمُ الاهانةِ التي ضربت كبرياءَ هذا الكيانِ المسخ في الصميم. بل تُعَبرُ عن عقيدةٍ صهيونيةٍ توراتيةٍ راسخةٍ، قديمةِ النشأةِ والتطبيق.
العقيدةُ العسكريةُ الموسويةُ نُسبتْ الى النبي موسى، لأنهُ أولُ من مارسها بنفسهِ حسبَ الروايةِ التوراتيةِ بعدَ أن علمهُ اللهُ “يهوه” اياها حينَ شقَّ البحرَ الأحمرَ لبني اسرائيل قومِ موسى ليمروا بسلام، وبعد ذلك أعادَ “يهوه” البحرَ الى ما كان عليهِ ليُطبِقَ على المصريين الذينَ دلفوا فيه لملاحقةِ اليهودِ الهاربين ويغرقهم جميعا.
طَبقَ موسى هذا الدرسَ عمليا عندما عادَ الى قومهِ من سيناءَ بعدَ تلقيهِ الوصايا العشر حيثُ وجدهم يعبدونَ العجلَ الذهبي، فأمر بذبحِ جميعِ العصاة.
كما اوصى موسى قومهُ قبلَ أنْ يموت، أنَّ عليهم اذا دخلوا الارضَ الموعودةَ أنْ لا يكتفوا بهزيمةِ قبائل الكنعانيين، بل عليهم ابادتهم جميعا بدونِ رحمةٍ، وعدمِ ابرامِ أي عهدٍ او وعدٍ معهم”.
“جميعُ القادةِ العظامِ بدءاً من موسى عرفوا بأنَّ العدوَ الذي يُخشى خطرهُ يجب سحقهُ تماماً. ذلكَ، أنَّ تركَ العدوِ حياً مهما بلغت درجةُ الإضعافِ التي وصل اليها، سيكونُ بمثابةَ تركِ النارِ تحت الرماد بدلاً من اطفائها”.
إذاً فالحكمةُ التي تبناها قادةُ اسرائيل بموجبِ العقيدة العسكرية الموسوية هي أنهُ عندما تضع قدمكَ على الافعى لتهرسها، عليكَ أن لا تتركها حيةً، لأنها ستنهضُ وتعضُ قدمكَ مُفرِغةً ضِعفَ كميةِ السم في جسدك. العدو الذي يُترَكُ يُشبهُ الافعى نصف الميتةِ، ستستعيدُ عافيتها ومع الزمن يصبحُ سمها اكثرَ خطراً حسبَ ما وردَ في نصوصهم.
الكثيرُ من الخسائرِ حصلت بسببِ الوقوفِ في منتصفِ الطريقِ بدلا من الوصول الى نهايته.
العدو سيستعيدُ قوته، وسيسعى للثأر. لذلك اسحقهُ ليس جسدياً ومادياً فحسبْ، وإنما ايضا، معنوياً وروحياً وأملاً”. وهذا ما تؤيدهُ الاستراتيجية العسكرية الصينية القديمة.
من الضروري الاشارةَ هنا الى أنَّ الهَ اليهودِ “يهوه” هو الهُ الجنودِ حسب التوراة. أي أنَّ هويتهُ عسكريةٌ قتالية. وهو الهٌ عنصريٌ اقنعَ اليهودَ أنهم سادةُ العالم، وأنَّ بقيةَ البشرِ قد خُلقوا لخدمة اليهود. كما أن مملكةَ بني اسرائيل هي العالم كله. تحكمه بشكلٍ مباشرٍ حيثُ يصلُ جيشها من الانس والجن، وبشكلٍ غيرِ مباشرٍ حيثُ يصلُ نفوذها.
مُنذُ أن تقررَ إنشاءُ الكيان الصهيوني بصدورِ وعد بلفور، لم تتوقف المواجهاتُ العنيفةُ بين بذورهِ الشيطانيةِ وبين العرب اهل البلاد. وقد اتسمت المواجهاتُ بالتصاعد مع مرورِ السنواتِ وتطور الإدراكِ بالتهديد المتوقع من المهاجرين اليهود الذين يتزايدُ عددهم وتتزايدُ أعدادُ المستوطنات التي يُنشئونها لتقضمَ الاراضي الفلسطينية شيئا فشيئا.
التعتيمُ المتعمدُ من قِبَلِ الانتدابِ البريطاني اللعين والمهاجرين اليهود، وعدمَ توفرِ حملاتِ توعيةٍ وتنظيمٍ للفلسطينيين سواءاً من أنفسهم أو من اشقائهم العرب، سمحَ لكرةِ الثلجِ أنْ تكبرَ، وأنْ تتحولَ الى كرةِ نار.
وهكذا ضاعت فرصةُ اقتلاعِ الفسائلِ الشيطانيةِ قبلَ أن تتجذرْ.
عندما اكتملت درجةُ الاستعدادِ لدى المليشياتِ الصهيونيةِ بدأت عمليةُ (process )استئصالِ الوجودِ الفلسطيني عن وجه فلسطين كما ينزاحُ الزبدُ عن وجهِ مياه السيل، ليسهُلَ إنكارُ الوجود التاريخي للفلسطينيين لاحقاً كأنهُ لم يكن، ومحوهِ من الذاكرةِ السياسيةِ لدولِ العالمِ حكومات ومنظمات وشعوباً تطبيقاً لمبدأ: crush your enemy totally اسحق عدوك تماما وانتزع روحه.
وبالمقابلِ، استغلت الصهيونيةُ جهلَ شعوبِ العالمِ بتاريخِ فلسطين فزرعت في عقولهم أنَّ فلسطينَ هي ارضُ الكيانِ الصهيوني الأزليةِ وأنَّ شرعيتها مُستَمَدةٌ من العهد القديم الذي تؤمنُ بهِ الشعوبُ البيضاء وحكامها بدرجةِ ايمانِ اليهود، وليس من قرارات الدول والهيئات الدولية. وأقنعتْ شعوبَ العالمِ أنَّ حرب عام ١٩٤٨ هي حربُ تحريرٍ لارضِ اسرائيل التي وهبها يهوه لهم حصراً قبلُ أن يحتلها العربُ المسلمونَ الهمج.
وهكذا، تمَّ عام ١٩٤٨ تهيئةُ ظروف سلوكِ القطيع لدفعِ الفلسطينيين للنزوح الغوغائي الجماعي باتجاهِ الدولِ التي تقع على الحدود معَ فلسطين.
غادرَ الفلسطينيونَ مُدنهم وقراهم حاملينَ معهم مفاتيح منازلهم وقواشينَ اراضيهم مصدقين اكاذيب مخاتيرهم والاذاعات العربية وسماسرةِ الاراضي عملاء الصهاينة بأنهم سيعودونَ بعدَ أن تضعَ الحربُ اوزارها.
على مدى عقدينِ ظَنَّ الكيانُ الصهيوني أنهُ نجحَ في تطبيقِ العقيدة الموسوية، وأنَّ القضيةَ الفلسطينيةَ قد دُفنت في ملفات الامم المتحدة وَشُنطِ دبلوماسي المكوك المتصهينيين ومعونات الاونروا.
الّا أنَّ نجاحَ الماردَ الفلسطيني بالخروجِ من القُمقمِ وإنجابِ المجموعاتِ الفدائيةِ ومن ثَمَّ منظمة التحرير الفلسطينية في اواخر الستينات من القرن العشرين، قد برهنَ على صحةَ مخاوفِ العقيدةِ الموسويةِ العسكريةِ. حيثُ تبينَ للصهاينةِ خطأَ حساباتهم، وأنهم توقفوا في منتصف الطريق لا في نهايته، وأنَّ النارَ الفلسطينيةَ لا زالت متوقدةً تحتَ الرمادِ ولم تنطفئ، و أنَّ ارواحَ اللاجئين الفلسطينيين لا تزالُ تُرَفرِفُ على ابواب وشبابيكِ منازلهم وعلى أغصانِ الزيتونِ والبرتقالِ في مزارعهم المغتصبة.
تجاربُ التوقفِ في منتصفِ الطريقِ تحتَ الضغطِ الدولي تكررت، وحصدَ الكيانُ الصهيوني الندمَ إثرَ كُلِّ واحدةٍ منها: خروجُ الفدائيين من الاردن، اخراجُ الفدائيينَ من لبنان الى تونس، خروجُ الاحتلالِ الصهيوني من غزة، توقيعِ اتفاقيةِ اوسلو على فداحتها التي سمحتْ بعودةِ قادة المنظمات الى الوطنِ المسلوب، وإنشاءِ جسم السلطة الفلسطينية التي تمكنت على الاقل من التواصل مع كيانات العالم السياسية ومنظماتهِ حاملةً علمَ فلسطين، لتعيدهم الى الوعي، أو تعيدَ الوعيَ اليهم الذي عملت الماكنةُ الدعائية الصهيونية على محوهِ بأنه لا وجودِ لشعبٍ فلسطينيٍ أصلاً.
لذلكَ ، فإنَّ العالمَ يراقبُ هذهِ الايام نتيجةَ الصراعِ ما بين حملةِ العقيدةِ الموسويةِ العسكريةِ وعقيدةَ حملةِ المفاتيحِ والقواشين التي لا تزال في الحفظِ والصونِ بانتظارِ العودةِ الرافضةِ للإبادة والفناء، الرافضة للهجرة والتهجير بعد تجربة خمسةٍ وسبعين عاماً ما بين جمر الهجير وصقيعِ الزمهرير في الخيام وبيوت الصفيح وفتات الاونروا.
الفلسطينيونَ من جانبهم يجبْ أن يُصروا على تطبيق الآيةِ القرآنية: “مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ .
حَكِيمٌ” (67) سورة الانفال.
“فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ”. سورة محمد آيه (4).
“The wisdom behind “crushing the enemy” is as ancient as the Bible: its first practitioner may have been Moses, who learned it from God himself, when He parted the Red Sea for the Jews, then let the water flow back over the pursuing Egyptians so that “not so much as one of them remained”. When Moses returned from Mount Sinai with the ten commandments and found his people worshiping the golden Calf, he had every last offender slaughtered. And just before he died, he told his followers, finally about to enter the promised land, that when they had defeated the tribes of Canaan they should “utterly destroy them…makes no covenant with them, and show no mercy to them.”
“A viper crushed beneath your foot but left alive, will rear up and bite you with a double dose of venom. An enemy that is left around is like a half dead viper that you nurse back to health. Time makes the venom grow stronger.
Your enemies want to eliminate you. In your struggle with them, you stop half way or even three quarters of the way, out of mercy or hope of reconciliation, you only make them more determined, more embittered, and they will someday take revenge. The solution: have no mercy. Crush your enemies as totally as they would crush you.”
Robert Greene, 2003.