فايزة عبدالكريم الفالح
في ظلِّ طَفرةِ اللاوعي ، والإفلاس من الشعور بأوجاع جراح فلسطين الدامية، الجراح العتيقة الجديدة في تلك الخاصرة القلب من الوطن العربيّ ، نرى جُلّ رعاة بلدانهم قد رَبَط على خاصرته الممتلئة عفانة وشاح العمالة المزدان بالبهرجة المزيّفة، تهتزّ صارخة على آهات صدى القروح القادمة من (أوبرا) ساحة النِّطاح ، تنقر بضربات أصابع إقدامها على إيقاع الموت المترامي الفائض جريانه على مسرح الدم النازف .
في ظلِّ طفرة اللاوعي ، والإفلاس من الإحساس بالواجب القومي ؛ تُعزَف الألحان الناعمة الصاخبة في حضرة الموقف، و من بين يَدَي الممكن تطاير مع الريح اللاممكن، وتلاشى اللاصعب في زمن العجب ، ومن المعيب أن نقف أوركسترا شرقيّة خلف المايسترو الغربي ، نهيم بإيماءات ملامحه وحركات يديه … ننصاع بلا هوادة لأوامر عصاه الزّبَد …! وقد نسي القطيع المتفرّج لحن العناق . فالعود يدندن عازفه مقطوعة عن الأطلال ، تعتصر أوتار العود ألماً ، يختنق جَوفَه شوقاً ؛ للحن “بلاد العُرب أوطاني” ، تُشير العصا إلى الناي : أعطني لحن الشِقاق …! إذ لا مكان للأشواق ، يدندن عازف الناي لراعي الحفل ، تفيض ثقوب الناي حسرة ؛ فما زالت لا تحفظ إلّا لحن الراعي الأصيل …! تهتزّ العصا مُشيرةً للكمان : هات …! اعزف على الوتر لحن مدينة “المستقبل الجديد” … إذ لا مكان فيها للصراع . يذوب الكمان خجلاً ؛ من قسوة ذاك الذراع . تُشير العصا إلى عازف القانون : اختم المتن بلحن المشهد الأخير ، لحن البقاء . تمجّ أوتار آلة القانون ببحر الحزن ، ترْكب نوتة القرار، ترْكب أمواج الجواب : أيّها العازفون العابرون ، المارُّون على أوتارنا ، ارحلوا … خذوا ألحانكم الدخيلة… وابتعدوا …!
تَئِنًّ الدّفوف من ضرب الكُفوف ، تعتلجها الرغبة إلى السفر عبر زمانهاالتليد . “مضارب الأنصارِ ” تحنّ إلى “يثرب” مكانها الرّغيد . تندب أسراب الطبول ما آلت إليه من واقعٍ مَهُول ، تتوجّد على ساحات الوغى ، وعلى عجاج الرمال ، إذا ما تراقص بين فَكِّي الرحى ، والريح حَصّادَة مع الخيول ، قَدح حذواتها يُشعل جذوة البرق ، وهزيم الرعود يضرب التاريخ : “جادك الغيث إذا الغيث هما ” ، يا زمان العُرب …! أين خبا …!؟ ممّن تدارى…!؟ وبمَن احتمى …!؟ وفلسطين تعتصر ألما :وااا عُرُوبتاااه …! وااا إسلاماااه …! حين رأت الغمد دُميَة ، والسيف قد نَبا حين جاروا عليه يوم أماتوا نقر الدفوف، وكتم الحداءِ …!
أندري …؟! أو لا ندري …؟!
في ظلّ طفرة العدمِ ، والإفلاس من الإحساس ، وتحت رعاية الشيطان، يتراقصون …! و ترقص الغواني ، وبين يَدَي حضرة الموت يصفّق الجمهور ؛ لأبطال مسرح الدُّمى، مسُوخٌ تُحَيّي مسُوخاً ، تتهادى قرابين الانصياع …! يومَ مدّ برقع السِلْم يده محتسياً كأس الهوان ، وعلى سَفحِ القبحِ ، أراقت حِلكة الليل دمَ الصبحِ…! و في عتم الصحراء ضاعت القافلة … تاهت…!ضلّ …! ضلّ …! ضلّ…! رائدها ، ولا ندري …! لمَن يكون هذا الفصيل . والغزاة يغتنمون الرياح كلّما هبّتْ ، والنار لا تُفَرِّقُ بين لحمٍ وعظمِ…!
في ظلِّ طفرة الموت بالمجان ، والإفلاس من الحياة … لم تعد الرؤى متشابهةٌ ولن تكون أبداً موّحَدَة ، والرأي دوماً فينا مُختلف، و ما اجتمعنا قطّ إلّا لنختلف . ها نحن نبيع أنفسنا على قارعة المزاد، المزاد البخس . فما أجدرَ أن نضع أنفسنا أمام مرآة قبح ذواتنا …! ونسمّي أسماءنا بمُسمَّياتها الحقيقة . فالفقد أليم، والمفقودة فينا هي المبادئ . والكسر _ يا سادة_ مُوجعٌ . فلكلّ كفّةِ ميزانٍ حيّز لا تستوعب فوق ما حُمِّلَت ، والموجودُ في وجودنا هو الهوان والإسراف في الذّل والتخاذل ، حتّى سلَّمنا رقابنا لمقصلة عَدُوِّ الجَدّ .
ها …! أصبح الموت الشريف عزيزاً ؛ في ظلّ طفرة اللاموت ، بين ميِّت وميْت . فها …! نحن واااخجلاه ننصاع بكلّ هوانٍ ومذلّة للمايسترو الخبيث ، تهشُّنا عصاه ، فتسقطنا بجروح مدغدغة ؛ كي ننسى جرحنا الغائر منذ مئة عام في كياننا ووجداننا … فلسطين قبلة القلوب ومعراجها . فإن كان لا بدّ ، فلنَعرِض أنفسنا بُكرةً وعشِيّاً للموت الكريم هناك .