كتبه المهندس خالد بدوان السماعنة
بداية وقبل أن أباشر الكتابة فيما أريد الحديث حوله فإنني أريد أن أنبه إلى بعض الأمور.
أولها … أنني في هذا المقال – وعلى غير عادتي – فإنني لن أقوم بإصدار نتيجة .. بل سأحاول فتح الأعين صوب مايجري في كواليس الحرب على غزة .. فقد اعتاد الناس على التأطير الإعلامي وفقا لما يقوم الإعلام ببثه لهم .. فبالأمس القريب كانت مجالسنا ومقاهينا لا حديث لها إلا الحرب الروسية على أوكرانيا وفجأة – ودون مقدمات – انتقلت عدسة الكاميرا إلى فلسطين وإلى غزة بالتحديد !! فلم يعد للعالم حديث إلا مايجري فيها من إبادة .. ولتتسارع وتيرة الأحداث وتتبعها سلسلة من التحليلات التي لا تكاد تنتهي حول الحاضر والمستقبل.
ثانيا … في رأيي المتواضع فإنه لن تصدق التحليلات ولا التوقعات مالم يتم ربط حاضرنا بماضينا .. أما المستقبل فبدون أدنى شك هو لنا ..لا أقولها من باب رفع المعنويات فقط .. بل أقولها معتقدا كما يعتقدها الكثيرون ممن يقرأون كتاب الله وسنة رسوله … ناهيك عن أن الحضارة الغربية إلى زوال ( أو كما أسماها فيلسوف الغرب “بريتراند روسل”: قيادة الرجل الأبيض). هذه الحضارة المتحكمة اليوم بمجريات الأمور المادية والمعنوية من خلال منطق القوة.
هذا الزوال للحضارة الغربية ليس وهما .. بل هو مدون في كتب فلاسفة الغربيين أنفسهم والتي كان من أشهرها كتاب «تدهور الحضارة الغربية» والذي تم كتابته في عشرينيات القرن الماضي بقلم مفكر وفيلسوف ألماني يدعى “أوزووالد إشبنجلير”.
ثالثاً … إن كل مانراه من طغيان وجبروت وسفك الدماء البريئة لا يعدو إرهاصات لنصر قريب بإذن الله.
فالموت ليس بالجديد علينا، والدم المسفوك فرصة ذهبية لصاحبه -إن حسنت نيته- أن ينال أعلى الدرجات، فالدنيا دار ممر، والآخرة هي المستقر، فإلى جنات الفردوس بإذن الله؛ والموت لابد منه لكل أحد.
الذي أردت توجيه النظر إليه في مقالي هذا هو هذا الحراك الحوثي في جنوب البحر الأحمر، وعند مضيق باب المندب بالذات.
لعل القاريء الكريم قد سمع يوما بمصطلح ” القرن الإفريقي” ! هذا المصطلح الذي يشير إلى أربع دول هي: جيبوتي، والصومال، وإثيوبيا، وإريتريا.
وإن أردنا أن نمارس السياسة قليلا لذهبنا إلى أوسع من ذلك، فضممنا إلى هذه الدول الأربعة كلا من: السودان وجنوبها، وكينيا بالإضافة إلى أوغندا. باعتبار هذه الدول امتدادا طبيعيا لدول القرن الإفريقي خاصة أنها تشترك جميعها بمنابع نهر النيل، وتتمتع بسيطرة على خليج عدن ومداخل البحر الاحمر.
ياترى كم هو حجم الوعي عند المواطن العربي حول مسألة الأمن المائي الذي من الممكن أن يشكل هاجسا عند دول العالم الغربي بالذات؟!.
يكفي أن نعلم أن باب المندب يأتي في المركز الثالث عالميا من ناحية الأهمية، اي بعد مضيقي هرمز و ملقا. إذ يمر منه يومياً ٤٪ من احتياجات العالم من النفط.
ولا أدل على هذه الأهمية لهذا المضيق من كونه يربط خليج عدن بالبحر الأحمر، ثم من هناك إلى البحر المتوسط عبر قناة السويس، بل يكفي أن نعي أهمية هذه البقعة من العالم من خلال ذلك التصارع على امتلاك موطن قدم للدول الكبرى في القرن الإفريقي، فجيبوتي وحدها فيها ٩ قواعد عسكرية لدول مختلفة الجنسيات، وهناك ٥ قواعد في الصومال، واحدة منها لدولة الإمارات وأخرى لتركيا. أما إريتريا ففيها قاعدتان أحداهما للإمارات، والأخرى للحكومة الإسرائيلية!!!.
وحين يأتي ذكر الحكومة الإسرائيلية فمباشرة سنبحث عن التواجد الأمريكي هناك .. فأينما وجدت إسرائيل ستجد أمريكا .. وعليه سنجد أن الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك قاعدة عسكرية في جيبوتي، وقاعدة أخرى في الصومال. ناهيك عن الأخبار عن قواعد سرية لها في كينيا، وأثيوبيا.
إن عدم ذكرنا لبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين لايعني أنه قد فاتتهم هذه الأهمية، فكل دولة من هذه الدول لها قاعدة عسكرية على الأقل في إحدى دول القرن الإفريقي.
لنعد سويا إلى عام ١٩٤٨ وهو العام الذي أعلن فيه اليهود قيام دولتهم لنجد أن مضيق باب المندب – بل البحر الاحمر برمته- أصبح إحدى نقاط صراع اليهود في فلسطين مع كل العرب. لذا كانت أول خطواتهم العسكرية بعد إعلانهم المشؤوم هو احتلال قرية ( أم الرشراش) الفلسطينية ليؤسسوا لهم فيها ميناء أسموه ( إيلات).
لقد كان سبب اندلاع حرب ١٩٦٧ قيام الرئيس المصري جمال عبد الناصر بإغلاق مضيق تيران أمام حركة الملاحة الإسرائيلية.
تخيل .. إغلاق مضيق تسبب في اندلاع حرب كانت نتائجها كارثية إلى يومنا هذا.
سيزول عجبك إذا ما علمت أن البحر الأحمر تحتاجه أوروبا لنقل ٦٠٪ من احتياجها من الطاقة عبره ! .. أما الولايات المتحدة الأمريكية فتحتاجه لنقل ٢٥٪ من الطاقة التي تحتاجها. ومع هذا الاحتياج العالمي فهناك ٧ دول عربية تطل على البحر الأحمر هي: السعودية واليمن والأردن، ومصر ،والسودان وجيبوتي والصومال. وهذا بحد ذاته يشكل هاجسا عند القوم !.
بعبارة أخرى: البحر الاحمر تحت السيادة العربية ! وهذه كارثة بالنسبة إلى الحكومة الإسرائيلية التي تعد هذا البحر امتداداً لأمنها القومي. ولا منفذ لها إلى آسيا وأفريقيا إلا من خلاله، فهل كانت ستسمح ببقاء هذه السيادة العربية ؟! خاصة في فترة كانت تعاني فيها من عزلة تامة عن محيطها العربي.
تخوف الحكومة الإسرائيلية لم يأت من فراغ ففي أوائل الخمسينيات اتخذت مصر سلسلة من الإجراءات هدفت إلى منع عبور سفن الشحن الإسرائيلية عبر خليج العقبة، نتج عنه قطع حكومة إسرائيل عن الأسواق الآسيوية والأفريقية. ثم أعقب ذلك وفي عام ١٩٦٢ تحديدا قيام الرئيس المصري جمال عبد الناصر بدعم الثورة اليمنية ليصبح للقوات المصرية موطأ قدم في الساحل اليمني على البحر الأحمر. على إثر ذلك تزايدت أنشطة الحكومة الإسرائيلية في البحر الأحمر
لتقم مصر بإغلاق مضيق تيران في وجه الملاحة الإسرائيلية ومنع سفنها من العبور نحو إيلات ( قرية أم الرشراش) لتشتعل على إثر ذلك فتيل حرب ١٩٦٧.
بل وممايزيد القاريء فهما لأبعاد مايجري هو أن وقوع اليمن تحت الاحتلال البريطاني كان أحد أسباب خسارة العرب عام ١٩٦٧. وانتهى هذا الاحتلال بعد أشهر قليلة، وكم حاولت بريطانيا أن تبقي باب المندب تحت سيطرتها بطلب مباشر من الحكومة الإسرائيلية لكن حدة مقاومة الثوار أفشلت هذا التوجه، والذي كانت نتائجه واضحة عام ١٩٧٣ حين كانت اليمن مستقلة فأدى ذلك إلى تفوق القوات المصرية في حرب أكتوبر من نفس العام حين قامت اليمن ومصر بإغلاق الملاحة البحرية في وجه إسرائيل.
هذا وذاك مع تزايد الأطماع الإسرائيلية في البحر الأحمر دفعها لمحاولة السيطرة على البحر الأحمر والدفع بأن تكون الممرات المائية فيه ممرات دولية، ورفع يد السيادة العربية عنه ووقف أي حق لهم في منع الملاحة فيه. ولأجل ذلك اتبعت استراتيجية إيجاد وجود عسكري لها
في البحر الأحمر بدءا من تطوير العلاقة السياسية مع الأنظمة الموجودة في المنطقة البحرية وبالذات مع النظام الأوغندي والأريتيري لكسر دائرة الحصار العربي مستقبلا في البحر الأحمر ومضيق باب المندب. لذا وفي عام ٢٠١٦ أسست لها قاعدة إلكترونية استخباراتية متطورة في أريتيريا وظيفتها فقط مراقبة مضيق باب المندب الذي يمر منه معظم إجمالي حركة التجارة الإسرائيلية الخارجية. وإمعانا منها في فهم أثر هذا المضيق على أمنها قامت بعقد اتفاقيات مع البحرين والإمارات خاصة أن الإمارات قد رسخت وجودها في هذه المنطقة البحرية الحساسة وبات لها موطن قدم في إريتريا وجيبوتي والصومال وجزيرتي ميون وسقطرى اليمنيتان. بل وشاركت إسرائيل في مناورة عسكرية مشتركة في البحر الأحمر مع القوات الأمريكية والإماراتية والبحرينية عقب توقيع اتفاقية أبراهام ٢٠٢٠.
إن الحكومة الإسرائيلية تعلم حدود قدراتها البحرية وأنها لن تستطيع منفردة تأمين هذا الموقع البحري الحساس لذا لجأت إلى مثل هذه الشراكات وخاصة مع الأسطول الخامس الأمريكي، وبالمقابل ربطت الولايات المتحدة الأمريكية مصالح إسرائيل في البحر الأحمر بالاستراتيجية العسكرية الأمريكية فيه. ومن جهة أخرى استمرت في تقوية علاقاتها مع الدول الإفريقة كأثيوبيا ( الحبشة سابقا) ثم مع إريتريا ( التي انفصلت عن أثيوبيا في تسعينيات القرن الماضي) ثم مع الحكومة الصومالية الانفصالية ( صومالي لاند ) والسعي الحثيث في تطبيع علاقاتها مع دول لها وجودها في هذا الممر البحري كالسودان.
والسؤال أين إيران من كل هذا؟
بالطبع فإن إيران التي تسيطر على مضيق هرمز على الخليج العربي ( الذي تصر إيران على تسميته بالخليج الفارسي) سعت إلى تعزيز وجودها في باب المندب من خلال التواجد الحوثي في اليمن والذي قام عام ٢٠١٨ بضرب ناقلتي نفط تتبعان للمملكة العربية السعودية أكبر مصدرة نفط خام للعالم، أعقبه إعلان السعودية تعليق الشحن ! فعاد أمن هذا الممر البحري للواجهة، وأصبح يستدعي تواجدا أكبر للقوات العسكرية الأمريكية والإسرائيلية بالطبع. خاصة وأن ثمة قوة أمريكية منذ عام ٢٠٠١ متواجدة في المضيق بحجة تأمينه، وأرسلت إسرائيل بعد هجمات الحوثيين مدمرتها “ساعر ٦” لتشارك القوة الأمريكية في هذا التأمين.
وطبعا فرنسا موجودة بقوة عسكرية لها في إريتريا، وبريطانيا لها تواجد عسكري في الصومال، التي تحتضن أيضاً قاعدة جوية أمريكية، والتي لها في أثيوبيا قاعدة للطائرات المسيرة بدون طيار.
هل استوعبنا حجم القوات العسكرية الأجنبية في البحر الأحمر والتي لا هدف لها إلا حفظ الممر التجاري المائي ورفع السيطرة العربية عنه، والإمعان في تدابير حماية إسرائيل.
وهكذا وكلما برز التهديد سواء أكان حقيقيا أم مفتعلا زاد حجم القوات العسكرية الأجنبية في البحر الأحمر.
بل ومنذ بدء الهجمات الحوثية على السفن عقب طوفان الأقصى يعلن قائد الاسطول الخامس البحري الأمريكي عن وصول مايزيد عن ٣٠٠٠ جندي وبحار أمريكي إلى منطقة الشرق الأوسط، ووصول السفينة USS Bataan (LHD-5) وهي سفينة هجومية برمائية، وسفينة USS Carter Hall (LSD-50) وهي سفينة إنزال أمريكية متطورة.
والسؤال: إلى أين تمضي وتيرة هذا التصعيد في المنطقة؟.
إسرائيل كعادتها تقاتل من وراء جدر المجتمع الدولي المتحالف معها، وأمريكا لن تتأخر في إقحام العالم في حروب جديد خدمة لمصالحها وحماية لطفلها المدلل إسرائيل. وما يجري خلف الكواليس لا يعلم حقيقته إلا الله.