اللواء الركن المتقاعد محمد سالم جرادات
بدخول الحرب الظالمة على غزة شهرها الرابع ومنذ ان أفاق العالم صبيحة يوم السبت الموافق 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 على مفاجأة مدوية سميت عملية ( طوفان الأقصى) التي شنتها كتائب عز الدين القسام الذراع العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس), والتي تعتبر اول عملية عسكرية نفذتها فصائل المقاومة الإسلامية خارج قطاع غزة والتي حققت المفاجأة الاستراتيجية بكامل ابعادها بالرغم من إجراءات الحصار الإسرائيلي المحكم على غزة منذ اكثر من خمسة عشرة عاماً , وتم الاعتراف بالإخفاق من قبل القيادات السياسية والعسكرية والأمنية الاسرائيلية على جميع المستويات , أحدثت تلك العملية بقدر مماثل الصدمة على الإدارة الامريكية والقيادات الأوروبية التي سارعت الى تقديم الدعم السياسي الاقتصادي والعسكري اللامحدود بدون أية خطوط حمراء دعماً لإسرائيل, وفي يوم 8 أكتوبر 2023 أعلنت إسرائيل الحرب على لسان رئيس الوزراء الاحتلال على غزة وشن عملية (السيوف الحديدية) وهي المرة الأولى التي تعلن فيها الحرب بعد حرب 1973 وتم دعوة 360 الف من الاحتياط وقد حددت اسرائيل هدفين رئيسيين هما: القضاء على حماس كلياً وانهاء حكمها في غزة , إعادة الاسرى والمحتجزين لدى فصائل المقاومة الفلسطينية وبالقوة, كما اعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ان هذه الحرب ستستمر طويلا , وانها ستغير الشرق الأوسط , وبمرور اكثر من ثلاثة اشهر من الحرب والقصف والتدمير من قبل سلاح الجو ونخبة القوات الأرضية الإسرائيلية والقوة البحرية مدعومة بأحدث وسائل التكنولوجيا العسكرية والذكاء الاصطناعي واحدث أنواع الذخائر ذات قوة التأثير الهائلة واستمرار الدعم الأمريكي والاوروبي وتوفر الطائرات ذات التقنيات العالية القادرة على اكتشاف ما تحت الأرض وتحديد مكان المحتجزين بالإضافة الى تحديد قادة حماس وشبكة الانفاق, لم تستطع اسرائيل وجيشها ان تحقق أي من الأهداف السياسية والاستراتيجية المعلنة للحرب الا ما يتعلق بتبادل الاسرى التي نجحت في التوصل اليها الوساطة القطرية والمصرية في صفقة تبادل الاسرى ضمن هدنة إنسانية بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية خلال الفترة (24 – 30 تشرين الثاني 2023 ) والتي شملت اطلاق سراح النساء والأطفال تحت السن القانوني بمعدل 50 اسرائيل مقابل نفس الشريحة وبعدد 150 من الفلسطينيين المعتقلين في إسرائيل الذي قدمت خلاله حماس نموذجا متقدما عاليا خلال عملية التبادل والتعامل الإنساني مع الاسرى الإسرائيليين على عكس الصورة التي قدمتها إسرائيل فقد حصدت إسرائيل فشلا آخر بالإساءة للأسرى الفلسطينيين واهانتهم وتهديهم وضربهم واقتحام منازلهم ومنع اهلهم من استقبالهم وكان له تأثيره النفسي والإنساني في جميع انحاء العالم, وقد فشلت القوات الغازية في تحرير الأسرى الإسرائيليين فبدلاً من انقاذهم تحت ضغط اهاليهم والمجتمع الإسرائيلي فقد قتل الجنود الإسرائيليين في حي الشجاعية يوم 15 ديسمبر 2023 ثلاثة جنود محتجزين وهم يرفعون الرايات البيضاء ويتكلمون العبرية يقولون (انقذونا) مع زملائهم المهاجمين ومع هذا اطلقوا عليهم الرصاص خوفا منهم (باعتبارهم من المقاومة) ليكتشفوا انهم زملائهم الذين يمثل انقاذهم احد اهداف الحرب , وعبر متحدث باسم الجيش الإسرائيلي، دانيال هيغاري، إن “القوات المسلحة تتحمل المسؤولية الكاملة عما حدث”، وأعرب المتحدث عن “الندم العميق على الحادث المأسوي” وليست هي الحادثة الوحيدة وخلال محاولات فاشلة من قبل وحدات الجيش الإسرائيلي تحت مسمى ( نيران صديقة ) وبحسب احصائيات الجيش الإسرائيـــــــــــــــــــــــــــلي ولغاية 1 يناير 2024 أن 31 جنديا إسرائيليا من بين 170 قتلوا بنيران صديقة وحوادث أخرى في قطاع غزة، منذ بدء الغزو البري ” وكما ورد بصحيفة ان تايمز أوف إسرائيل“
تطرقت بعض مراكز الدراسات العالمية والإسرائيلية وادلى بعض الخبراء الاستراتيجيين وجهة نظرهم في واقعية قدرة إسرائيل على تحقيق وإنجاز الأهداف المعلنة لحربهم على غزة , فقد كتب الصحفي الأمريكي البارز توماس فريمان في صحيفة نيويورك تايمز بعد مرور أكثر سبعين يوما من الحرب على غزة ويقول (ان الوقت قد حان لنهاية الحرب في غزة فإسرائيل لن تحقق أهدافها وآن الأوان ان على أمريكا ان تخبر إسرائيل بحزم ان حربها لإبادة حماس لن تحقق اهدافها وان تخبرها ان تعلن النصر في غزة وتنهي الحرب وتعود ادراجها), رئيس وزراء إسرائيل الأسبق ايهود اولمرت يؤكد (ان الأهداف التي حددها نتنياهو هي غير واقعية ولا يمكن تحقيقها) , بينما يرى يوسي كلاين هليفي، من “معهد شالوم هارتمان”( أن إسرائيل قد أصبحت أخطر دولة في العالم بالنسبة لليهود) ويستطرد بقوله (انه لا توجد إستراتيجية إسرائيلية واقعية لإسقاط حركة حماس).
والمتابع للعمليات وإدارة الحرب الإسرائيلية على غزة يرى جلياً ان تحقيق اهداف الحرب او حتى محاولة تحقيقها وخاصة بعد دخول الحرب شهرها الرابع بعيدة التحقيق فالعقيدة ونظرية الأمن الإسرائيلي تقوم على حسم الحرب بسرعة وهذا ما كان في الحروب العربية الإسرائيلية السابقة ولكن في هذه الحرب اختلفت وستحدث تغييرات محورية في هذه النظرية بعد انتهاء الحرب, ان ما يجعل تحقيق الأهداف السياسية الإسرائيلية للحرب على غزة بعيدة المنال لأسباب متعددة الخصها في الابعاد التالية : أولها تزايد خسائر الغزو البري وتكلفته الباهظة والتي قد تصل الى درجة لا تتحمله إسرائيل , علاوة على حالة الارتباك التي تعاني منها القيادات في الميدان في انجاز اهداف عملياتية تقود الى تحقيق اهداف السياسة للحرب , وما البدء في المرحلة الثالثة التي أعلنت يـــــــــوم 8 يناير 2024 وسحب سبعة الوية يتبعها عدد آخر تدريجيا الا احد معالم هذا التراجع وتمثل فقدان الزخم البري والعودة للحل الاسهل وهو القصف من الجو والذي لن ينتج غير التدمير والابادة, وثانيها تعمق هوة الخلاف وفقدان الثقة المستمر بين القيادتين العسكرية والسياسية وبين المجتمع وقيادته السياسية، الى جانب ضرّر ملموس يطول صورة إسرائيل في العالم بسبب الجرائم التي ترتكبها في غزة والضفة الغربية والذي توج في وفع جنوب افريقيا قضية ضد إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية التي سيكون اول جلساتها في 11 كانون الثاني 2024 ،, وثالثها يتمثل في الحالة المعنوية المتردية للجيش الإسرائيلي وتعاظم تدني الحالة النفسية للمجتمع بسبب عدم القدرة على تحرير المحتجزين لدى المقاومة , ورابعها عدم وجود استراتيجية واضحة لدى إسرائيل حول خطة إدارة قطاع غزة في اليوم التالي للحرب , اما البعد الخامس ان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو واليمين المتطرف اصبحوا رهائن للأهداف غير القابلة للتطبيق ( عدا التدمير المنقطع النظير للبنى التحتية واستهداف المدنيين من الأطفال والنساء الذين زادت نسبتهم عن 70% من الشهداء وايقاع الخسائر المدنيين واستهداف أي مؤسسات خدمية او طبية او مدارس ومؤسسات الأمم المتحدة ) ويدفعون باتجاه استمرار الحرب لأنها الوسيلة الوحيدة لنجاة رئيس الحكومة مؤقتاً من المحاكمة, خاصة مع تزايد المطالبات بإقالة رئيس الحكومة نتنياهو وهذا واضحاً بتصريحات المعارضة وعدد كبير من المسؤولين المدنيين والعسكريين الإسرائيليين الحاليين والسابقين ما بعد جلسة مجلس الوزراء الإسرائيلي بداية كانون الثاني يناير 2024 , سادساً يكمن في قدرة المقاومة في غزة حتى اليوم الرابع والتسعين على استمرار تحقيق إنجازات بشكل يومي بإيقاع اكبر الخسائر في القوات الغازية سواءً في القوى البشرية او الاليات والمعدات والنجاح الميداني وقدرتها على التأثير ميدانياً وتحقيق المفاجأة والوقت والزمان لإيقاع التأثير المطلوب, إضافة الى نجاح وسائل الحرب النفسية للمقاومة التي تستهدف إرادة القتال والمجتمع الإسرائيلي من خلال تصوير واصابات الأهداف وتدمير الاليات الإسرائيلية وتوثيقها وبثها, وقدرة كتائب المقاومة الفلسطينية على استمرار وادامة القتال بعد كل هذا الوقت واستمرار تهديد غلاف غزة والعمق الإسرائيلي وتل ابيب بقدراتها الصاروخية المؤثرة , الى افشالها المتكرر لمحاولات قوات النخبة الإسرائيلية في تحرير الرهائن , كل هذه العوامل ساهمت في اضعاف الى حد كبير ومؤثر مصداقية القيادة الإسرائيلية امام شعبها وامام حلفاء إسرائيل وتزايد الشكوك في قدرتها على تحقيق اهداف الحرب, وأخيرا بات من الواضح في ظل كل ما ذكر ان تحقيق اهداف الحرب التي أعلنتها إسرائيل أصبحت بعيدة المنال على الأقل في المدى المنظور, حتى وان وقعت بعض الخسائر في القدرات القتالية للمقاومة الفلسطينية خلال خوضها لحرب طاحنة على مدى الثلاثة شهور الماضية , ولهذا من الملحوظ ان النصائح والمطالبات تزداد من بعض الدول الحليفة لإسرائيل ومن المفكرين ومراكز الدراسات وبيوت الخبرة الإسرائيليين لإيقاف الحرب وإعادة المحتجزين احياء , بينما يمعن نتنياهو في عدم قبول كل تلك النداءات مصراً على تحقيق الأهداف , ومحاولاً رفع درجة التصعيد في الضفة الغربية ولبنان والبحر الأحمر وجر دولاً إقليمية للصراع خاصة بعد استشهاد احد كبار قادة حماس صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت التي اوقفت حركة حماس بسبب هذا الحادث كل اشكال التنسيق للتهدئة او الهدنة مع الوسطاء , وهنا من الواضح انه كلما تقدمت أيام الصراع كلما زادت الفجوة في القيادة الإسرائيلية وكلما زاد تحقيق الأهداف بعداً عن التحقيق وصولا للنهائية الطبيعية لانهاء الحرب امام الصمود الأسطوري في اقسى حرب غير متكافئة التي قتل وجرح خلالها اكثر من مئة الف برئ وستبقى في ذاكرة والاجيال خلال عقود طويلة وربما قرن قادم