الأستاذ الدكتور عبدالله سرور الزعبي
منذ بداية القرن الحالي، إنشغل العالم في مواجهة تطرف وإرهاب القاعدة، ثم إنتقل في العقد الثاني منه، لمواجهة إرهاب وتطرف ما يسمى بداعش، والمعروف كيف نشأت وتوسعت في بعض دول المنطقة، وكيف إنتقلت فيما بعد إلى بعض الدول الإفريقية مهددة بذلك أمن وإستقرار القارة السمراء.
في فترة إنشغال العالم، كان هناك تطرف خطير ينمو في المنطقة، ويقوى تدريجياً إلى أن وصل إلى السلطة في دولة إسرائيل ولأكثر من مرة، مسلحاً بعقائد واهية، لا تمت للديانة اليهودية الحقيقية بصلة، وكما هي عقيدة داعش البعيدة كل البعد عن المفاهيم الإسلامية. هذه المفاهيم التي وضحتها رسالة عمان والموجهة لكافة شعوب العالم عام 2004.
على الرغم من مرور ما يقارب 30 عاماً على إتفاقية أوسلو، إلا أن القادة الإسرائيليين، لم يعملوا على تنفيذ بنودها، وغياب الضغط الدولي الكافي لإجبارهم على تنفيذها وإحلال السلام، حتى وصل الأمر بالسياسيين المتطرفين منهم بالتنافس في خطاباتهم، من منهم الأكثر تطرفاً إتجاه القضية الفلسطينية والقدس والتوسع بالإستيطان لإرضاء القوى الحريدية المتطرفة. وكإن نتنياهو، الأكثر إجادة في التسويق لنفسه والقدرة على الخداع والتلاعب في تفسير أحاديثه المتناقضة لإقناع العالم بها، وإظهار رغبته بالسلام مع جيرانه، وبنفس الوقت كان يسوّق خطته داخلياً لإجتثاث فكرة قيام الدولة الفلسطينية، والتي هي الأساس لأي تسوية سلمية بين شعوب المنطقة.
جاءت لحظة الحقيقة، وشكلت إسرائيل الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخها (آن لم تكن الأكثر تطرفاً في كافة دول العالم في القرن الحالي)، والتي تبنت عقيدة التفوق اليهودي بكل عناصرها وجوهرها. وبدأت الحكومة الإسرائيلية المتطرفة بالسعي المباشر لتنفيذ مخططها للقضاء على فكرة قيام الدولة الفلسطينية عن طريق بناء المستوطنات الجديدة والتوسع بالقائم منها والإعتداءات المتكررة على المقدسات في القدس الشريف، متناسية بأن هذه المقدسات مسلمات لا تقبل التفاوض أو حتى التفكير في تقاسمها، والمساس بها سيقود إلى أعمال العنف والتطرف والعنصرية البغيضة، التي من الصعب السيطرة عليه.
كما سارعت الحكومة الإسرائيلية بالعمل على تحويل إسرائيل، والتي عرفها العالم الغربي بالدولة المدنية والديمقراطية إلى دولة يهودية، لتصبح بذلك ومع كل أسف شبيهة بدول التنظيمات الدينية التي ظهرت موقتاً في بعض المواقع الجغرافية في المنطقة وغيرها من المناطق.
كما سارعت إلى تنفيذ عمليات الإصلاح القضائي (التي أدت الى انقسام المجتمع الاسرائيلي)، الذي يهدف لإصدار قانون يقضي بضم أراضي الضفة الغربية (كما سبق وأن تم ضم أراضي الجولان السوري)، غير آبهة بتبعاته السياسية على القضية الفلسطينية وأمن المملكة الأردنية الهاشمية والمرتبطة معها بإتفاقية سلام منذ عام 1994.
إن حكومة إسرائيل لم تخفي ذلك، وهي التي صرحت بأن سيادة اليهود يجب أن تكون على كامل أرض إسرائيل الموعودة، وسبق وأن أعلن نتنياهو قائلاً “بأن للشعب اليهودي حق لا جدل فيه في جميع أراضي إسرائيل، وسنعمل على تعزيز الإستيطان في الجليل ويهودا والسامرة والجولان”. إن مثل هذا التصريح المباشر فيه تحدي واضح للمجتمع الدولي كافة بالقضاء على فكرة وجود الدولتين، معتمداً على النجاح الذي حققه في بناء علاقات دبلوماسية وأمنية واقتصادية مع بعض دول المنطقة.
جاءت أحداث تشرين الأول 2023, فكانت الصدمة، والتي أصابت قيادات إسرائيل بضيق الأفق السياسي، فكانت ردت الفعل الانتقامية، بشكل هستيري، فأعلن نتنياهو الحرب، منطلقاً فيها من عقيدة التطرف التي يؤمن بها، والقائمة على قتل الجميع دون إستثناء، مذكراً الإسرائيليين بالعماليق (وهم من القبائل العربية)، وهذا يعتبر إعلان رسمي لنية الإبادة الجماعية، كما وأعلن أحد الخامات قائلاً “ليس هناك رحمة، قد تظن أنك رحيم بالطفل، سوف يكبر الطفل ويقتل لأن عقيدة الطفل ستكون أسوأ من عقيدة والده” مستوحياً هذا النص من التوراة، والتي لا يمكن لها أن تكون من نصوص التوراة الحقيقية، كونها من الكتب السماوية كالإنجيل والقرآن الكريم، وجميعها تحرم قتل الأبرياء من البشر، لا بل أن القرآن الكريم يعتبر أن قتل النفس كقتل البشرية جمعا.
إنّ نتنياهو وغيره من القيادات الإسرائيلية، الذين يتبنوا مثل هذه المبادئ الخاطئة، كان من المفروض عليهم أن يستفيدوا من النصوص الحقيقية الواردة في التوراة والقرآن الكريم، لقصة سيدنا موسى، الذي أنجاه الله من بطش فرعون من دون أطفال بني إسرائيل والذي قادهم للنصر على جيشه. كما عليهم ان يتعلموا من حروبهم السابقة على غزة فلسطين، والتي بعد حرب يكون فيها القتل والدمار والعنف المتبادل أكثر من سابقتها.
مرة أخرى، تسابق وزراء الحكومة الإسرائيلية في تصريحاتهم، فوزير التراث يدعو لإستخدام القنبلة الذرية، ووزير الدفاع يتخذ قرار بقطع الماء والغذاء والدواء وغيرها من أساسيات الحياة، ووزير الزراعة يدعو إلى اخراج الفلسطينيين من أرضهم وتوزيعهم على دول العالم وغيرها من التصريحات الغير مسؤولة.
إن هذه التصريحات، وأعمال القتل الجماعي ومنع أساسيات الحياة عن الفلسطينيين، دفعت شعوب العالم للوقوف ضد التوجهات السياسية لقياداتهم المعارضة لوقف إطلاق النار والداعمة لموقف لإسرائيل دون أي شرط.
كما أن أغلبية الشعب الإسرائيلي (كبقية شعوب العالم راغبين بالتعايش) وقياداته المعتدلة وصلت إلى قناعة بأن تصرفات حكومة نتنياهو، هي من أوصلتهم إلى هذا المستوى من العنف، والذي قد يحتاج إلى عقود لتجاوز حجم الحقد والكراهية التي ولدها، وألحقت ضرراً بالعلاقات الإسرائيلية بمختلف أنواعها مع معظم الدول المرتبطة معها بعلاقات مختلفة، وهم مقتنعون بأن هذه الحكومة قد وضعت نفسها في مأزق من الصعب لها الخروج منه، وأن نتائج هذا العنف القائم حالياً، مهما كانت نتائجه ستكون سلبية بكل المعايير على مستقبل إسرائيل. ولذلك فإنهم على قناعة تامة بأن الإسراع في التخلص من هذه الحكومة أصبحت ضرورة قصوى لمصلحة إسرائيل، وأن ما يؤجل ذلك العمليات الحربية الحالية، وهم المتخوفون أيضاً، من أن تقدم الحكومة الحالية في حال استمرارها على حرب جديدة بعد الآنتهاء من حرب غزة فلسطين.
إنه لمن الواضح، أن موقف الشعوب العالمية المناهضة لما يجري من أعمال قتل وإبادة جماعية، أصبح يهدد مستقبل القيادات السياسية في بعض الدول، والتي بدأت نتائجها تظهر في بريطانيا (استقالة وزيرة الداخلية) وقد يتبعها أخرى، وأن هذه الحرب ستلعب دوراً مهماً في الانتخابات الأمريكية القادمة وغيرها من الدول (على أية حال لقد سقطت بعض القيادات العالمية انسانياً قبل سقوطها سياسياً)، كما أن موقع الأمين العام للأمم المتحدة ومنسق الخارجية للإتحاد الأوروبي، اصبحا مهددين بسبب انتقادهم أعمال القتل الجماعي ومنع أساسيات الحياة عن الفلسطينين.
إن الأخبار التي أعلن عنها مساء يوم الجمعة 17/11/2024 على قناة الجزيرة، والمتضمنة أن الإدارة الأمريكية تبحث استبدال الرئيس الفلسطيني (يذكرني بما حصل في بداية القرن الحالي، حيث تم التخلص من الرئيس عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي شارون في نفس الفترة تقريباً والتي تم الإعتقاد بأنه لمصلحة ومستقبل السلام في الشرق الأوسط). وإذا صح الخبر، فإنه أصبح من الضروري للقيادات الفلسطينية أن تسارع للإتفاق والتوحد فيما بينها لمصلحة قضيتهم، والإعتماد على الأردن وقيادته الهاشمية، القادرة على تحقيق النتائج السياسية (التي بدأت معركتها قبل وقف إطلاق النار) الإيجابية لصالح قضيتهم وأمن المنطقة.
من الواضح أن منطقة الشرق الأوسط تمر حالياً في أخطر مرحلة في تاريخها الحديث، وأن إسرائيل مستمرة في حربها (دون رادع دولي) على غزة فلسطين، وبالرغم من صغر حجمها، إلا أنها قلبت التوازنات العالمية، ودفعت أو ستدفع أمريكا لتقديم تنازلات لدول كبرى مثل الصين وروسيا وبعض الدول الإقليمية، لم تكن واردة قبل هذا التاريخ، كما أن التحالفات العالمية في العام القادم لن يكون كما هي علية الآن، ومهما كانت نتائج الحرب الحالية، وقوة الضغط السياسي والإقتصادي والإعلامي والتي قد تمارسها إسرائيل على المجتمع الدولي.