وطنا اليوم – تعددت الأسباب والآراء التاريخية التي تناولت ظهور الدولة العباسية والقضاء على الأمويين وذهاب ريح دولتهم، وتجتمع كثير من هذه الآراء على أن ظُلم الموالي، وهم المسلمون من غير العرب، كان السبب الأبرز في عصيانهم وتمردهم المسلح على القيادات العسكرية الأموية بقيادة أبي مسلم الخراساني وإسقاط الدولة الأموية، لكن هذه الآراء بحاجة إلى فحص أكثر تأنيا على ما يبدو للوقوف على حقيقة الثورة العباسية وطبيعة الدور الذي لعبه كل من العرب والموالي في إذكائها ونجاحها.
بشكل عام، استغلّ العباسيون ودُعاتهم حالة السخط المتنامية ضد الأمويين لأكثر من عشرين عاما حتى تمكنوا من تنظيم الدعوة هيكليا، وجنّدوا لها الرجال، وخصصوا لها الأموال. وقد رأى العباسيون، وهم فرع من أبناء الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كانوا يقطنون في الحُميمة بأرض الأردن، هذا الغضب الممتلئ في النفوس من الأمويين وعُمالهم وولاتهم، كما قرأوا الخريطة السياسية للعالم الإسلامي آنذاك قراءة جيدة، ورأوا أن دمشق وبلاد الشام هي قلعة الأمويين الحصينة، وأن مناطق الجزيرة العربية ومصر وشمال أفريقيا يتحكم فيها الأمويون بصورة جيدة.
في المقابل، كان العراق أرضا ثائرة على الدوام ضد الأمويين، كما كانت خراسان في شرق العالم الإسلامي تزداد نقمة أهليها يوما بعد آخر، ولا غرو في ذلك، فالعراقيون في الكوفة خاصة كانوا من أكثر الناس ولاء للعلويين ومظلوميتهم، بينما في مناطق خراسان وإيران كان الفُرس والمسلمون من غير العرب على نقمة من سوء تصرف ولاة الأمويين، وتكبُّر كثير من العرب عليهم.
والحق أن العرب كانوا هم أساس القوة والعنصر الأبرز في العصر النبوي ثم الراشدي ثم الأموي، وقد تمكن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون حتى عصر عثمان رضي الله عنه من الاستفادة المثلى منهم في الفتوحات، ولم تكن العصبية للعِرق مُقدَّمة على الإنصاف والمساواة، ولكن مع استشهاد عثمان رضي الله عنه وظهور الفتنة بين الصحابة الكرام، انقسم العرب على أنفسهم بين الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ووالي الشام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، ثم بعد وفاة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان انقسم العربُ على أنفسهم إلى ثلاث عُصب كبرى، وهي قوة الحجاز التي كان يقودها الصحابي عبد الله بن الزبير بن العوام، ثم عصبة العراق التي وقفت مع الحسين بن علي رضي الله عنه والعلويين، ثم عُصبة الشام التي كانت تدين بالولاء للأمويين عموما رغم سقوط الفرع الأموي السفياني وصعود الفرع المرواني.
ولكن بالتأمل في هذه العُصب الثلاثة التي كانت في حقيقتها أخلاطا من قبائل عربية شتّى، سنجد أن أكثرها تنظيما وولاء كانت القبائل العربية في الشام التي وقفت حتى النهاية مع الأمويين، وكان لها الفضل في إعادة إحياء دولتهم مع مروان بن الحكم مؤسس الفرع المرواني، وقد تسبب ذلك في تزايد نقمة القوى القبلية العربية في العراق والحجاز على الأمويين.
وفي ظل هذه السيادة العربية المطلقة على المشهد السياسي العام، كان من الطبيعي أن يكون للموالي موقع ثانوي، لا سيما مع عودة النعرات العصبية العربية من جديد منذ زمن الفتنة الكبرى وفي العصر الأموي، لقد أصبح من الطبيعي أن نقرأ عن التنافس الواضح بين القيسية واليمانية، وبين العدنانية والقحطانية، وبين مُضر وربيعة ليس في العراق والشام والجزيرة العربية فقط، بل وفي مصر وشمال أفريقيا وحتى أقصى الأندلس وفي المشرق حيث خراسان وإيران.
وبجانب هذه التطورات السياسية التي أدت إلى الهيمنة العربية المطلقة على المشهد السياسي العام حينذاك؛ فقد كان تغلّبهم من قبلُ على الفُرس والروم سببا آخر من جملة الأسباب الرئيسية لشعورهم بالقوة والظفر، ولقد أخذ كثيرون من هذه القبائل -خلا رجال الدين والعلم والتقوى من المؤمنين بالقيم الإسلامية والمساواة بين العرب وغير العرب- يشعرون أن العربي له مزية فوق الآخرين، حتى قال بعضهم في حق الموالي: “يكسحون طرقنا، ويحوكون ثيابنا، ويخرزون خفافنا”[1].
ولما ولي التابعي الشهير سعيد بن جبير، وكان أسديّ الولاء حبشي الأصل، على القضاء في الكوفة، ثار أهلها من رؤوس القبائل العربية وقالوا: “لا يصلُح للقضاء إلا عربيّ”[2]. ولما بنى الحجاجُ بن يوسف الثقفي مدينة واسط في العراق نفى أهل تلك المنطقة من النبط، وكتب إلى عامله على البصرة: “إذا أتاك كتابي فانفِ من قبلَك من النبط؛ فإنهم مفسدة للدين والدنيا”، بل صدرت قرارات تمنع زواج الموالي من النساء العربيات، وقد جَلد والي البصرة مولى تزوّج امرأة من بني سليم، وفرّقَ بينه وبين زوجته، وضربه مئتي سوط، ثم حلق رأسه ولحيته وحاجبيه[3].
ولم تكن النظرة العربية المترفّعة على الموالي السبب الوحيد الذي جعلهم يُضمرون الغضب والحقد على الأمويين، بل فرض الكثير من ولاتهم الضرائب المجحفة على الموالي، واستمر بعضهم في أخذ أموال الجزية منهم رغم إسلامهم، من لم يُسلم منهم كانوا يزيدون عليه في الخراج مثلما فعلوا مع نصارى الشام ومصر، والسبب في ذلك أن دولة الأمويين كانت بحاجة دائمة إلى الأموال لتمويل الجيوش في عمليات القتال والفتوحات، وفي مقاومة الحركات الثورية المناوئة [4].
بشكل عام، استغلّ العباسيون ودُعاتهم حالة السخط المتنامية ضد الأمويين لأكثر من عشرين عاما حتى تمكنوا من تنظيم الدعوة هيكليا، وجنّدوا لها الرجال، وخصصوا لها الأموال. وقد رأى العباسيون، وهم فرع من أبناء الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كانوا يقطنون في الحُميمة بأرض الأردن، هذا الغضب الممتلئ في النفوس من الأمويين وعُمالهم وولاتهم، كما قرأوا الخريطة السياسية للعالم الإسلامي آنذاك قراءة جيدة، ورأوا أن دمشق وبلاد الشام هي قلعة الأمويين الحصينة، وأن مناطق الجزيرة العربية ومصر وشمال أفريقيا يتحكم فيها الأمويون بصورة جيدة.
في المقابل، كان العراق أرضا ثائرة على الدوام ضد الأمويين، كما كانت خراسان في شرق العالم الإسلامي تزداد نقمة أهليها يوما بعد آخر، ولا غرو في ذلك، فالعراقيون في الكوفة خاصة كانوا من أكثر الناس ولاء للعلويين ومظلوميتهم، بينما في مناطق خراسان وإيران كان الفُرس والمسلمون من غير العرب على نقمة من سوء تصرف ولاة الأمويين، وتكبُّر كثير من العرب عليهم.
والحق أن العرب كانوا هم أساس القوة والعنصر الأبرز في العصر النبوي ثم الراشدي ثم الأموي، وقد تمكن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون حتى عصر عثمان رضي الله عنه من الاستفادة المثلى منهم في الفتوحات، ولم تكن العصبية للعِرق مُقدَّمة على الإنصاف والمساواة، ولكن مع استشهاد عثمان رضي الله عنه وظهور الفتنة بين الصحابة الكرام، انقسم العرب على أنفسهم بين الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ووالي الشام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، ثم بعد وفاة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان انقسم العربُ على أنفسهم إلى ثلاث عُصب كبرى، وهي قوة الحجاز التي كان يقودها الصحابي عبد الله بن الزبير بن العوام، ثم عصبة العراق التي وقفت مع الحسين بن علي رضي الله عنه والعلويين، ثم عُصبة الشام التي كانت تدين بالولاء للأمويين عموما رغم سقوط الفرع الأموي السفياني وصعود الفرع المرواني.
ولكن بالتأمل في هذه العُصب الثلاثة التي كانت في حقيقتها أخلاطا من قبائل عربية شتّى، سنجد أن أكثرها تنظيما وولاء كانت القبائل العربية في الشام التي وقفت حتى النهاية مع الأمويين، وكان لها الفضل في إعادة إحياء دولتهم مع مروان بن الحكم مؤسس الفرع المرواني، وقد تسبب ذلك في تزايد نقمة القوى القبلية العربية في العراق والحجاز على الأمويين.
وفي ظل هذه السيادة العربية المطلقة على المشهد السياسي العام، كان من الطبيعي أن يكون للموالي موقع ثانوي، لا سيما مع عودة النعرات العصبية العربية من جديد منذ زمن الفتنة الكبرى وفي العصر الأموي، لقد أصبح من الطبيعي أن نقرأ عن التنافس الواضح بين القيسية واليمانية، وبين العدنانية والقحطانية، وبين مُضر وربيعة ليس في العراق والشام والجزيرة العربية فقط، بل وفي مصر وشمال أفريقيا وحتى أقصى الأندلس وفي المشرق حيث خراسان وإيران.
فرض الكثير من ولاه الأمويين الضرائب المجحفة على الموالي، بل واستمر بعضهم في أخذ أموال الجزية منهم رغم إسلامهم. (مواقع التواصل)
وبجانب هذه التطورات السياسية التي أدت إلى الهيمنة العربية المطلقة على المشهد السياسي العام حينذاك؛ فقد كان تغلّبهم من قبلُ على الفُرس والروم سببا آخر من جملة الأسباب الرئيسية لشعورهم بالقوة والظفر، ولقد أخذ كثيرون من هذه القبائل -خلا رجال الدين والعلم والتقوى من المؤمنين بالقيم الإسلامية والمساواة بين العرب وغير العرب- يشعرون أن العربي له مزية فوق الآخرين، حتى قال بعضهم في حق الموالي: “يكسحون طرقنا، ويحوكون ثيابنا، ويخرزون خفافنا”[1].
ولما ولي التابعي الشهير سعيد بن جبير، وكان أسديّ الولاء حبشي الأصل، على القضاء في الكوفة، ثار أهلها من رؤوس القبائل العربية وقالوا: “لا يصلُح للقضاء إلا عربيّ”[2]. ولما بنى الحجاجُ بن يوسف الثقفي مدينة واسط في العراق نفى أهل تلك المنطقة من النبط، وكتب إلى عامله على البصرة: “إذا أتاك كتابي فانفِ من قبلَك من النبط؛ فإنهم مفسدة للدين والدنيا”، بل صدرت قرارات تمنع زواج الموالي من النساء العربيات، وقد جَلد والي البصرة مولى تزوّج امرأة من بني سليم، وفرّقَ بينه وبين زوجته، وضربه مئتي سوط، ثم حلق رأسه ولحيته وحاجبيه[3].
ولم تكن النظرة العربية المترفّعة على الموالي السبب الوحيد الذي جعلهم يُضمرون الغضب والحقد على الأمويين، بل فرض الكثير من ولاتهم الضرائب المجحفة على الموالي، واستمر بعضهم في أخذ أموال الجزية منهم رغم إسلامهم، من لم يُسلم منهم كانوا يزيدون عليه في الخراج مثلما فعلوا مع نصارى الشام ومصر، والسبب في ذلك أن دولة الأمويين كانت بحاجة دائمة إلى الأموال لتمويل الجيوش في عمليات القتال والفتوحات، وفي مقاومة الحركات الثورية المناوئة [4].
لكن التسليم التام للروايات التي تبالغ في تصوير القبضة العربية المطلقة على السياسة والمجتمع، والازدراء التام للموالي، يتنافى مع الواقع التاريخي، فقد برز علماء وقضاة من الموالي، منهم سعيد بن جبير الآنف ذكره الذي تولى القضاء في نهاية المطاف رغم اعتراض أهل الكوفة، ويجب ألا ننسى أن كثيرا من أهل الكوفة والبصرة كانوا ذوي ثورات متتابعة على الولاة من الصحابة العرب الأقحاح في زمن عمر وعثمان، فالعرب أنفسهم لم يكونوا كُتلة واحدة، فقد انقسموا إلى ثلاث عُصب مختلفة الأهداف والاتجاهات السياسية بين الأمويين والعلويين والزبيريين كما رأينا.
يشيرُ العديدُ مِن الباحثين إلى دخول الموالي في بنية الدولة الأموية، وأن العرب أنفسهم كانوا على رأس المدبرين للثورة ضد الأمويين، واستخدموا الموالي في ذلك أو تلاقت مصالح الطرفين، يشير عمر فاروق فوزي في كتابه “الثورة العباسية” إلى “اختلاط الروايات التاريخية في مطلع القرن الثاني للهجرة؛ بسبب ظهور الفرق الدينية ونشوب الفتن الكبرى، فعلى الرغم من ثبوت بعض حالات التمييز الاقتصادي والاجتماعي ضد الموالي فإنها لم تعكس الوضع العام، ذلك أن الموالي استُخدموا في إدارة الأعمال والدواوين وفي الأعمال المالية أيضا، وبرز منهم ولاة وقادة وقضاة”.
كانت المذاهب الدينية خطرا ماثلا آخر يهدد سلطان الأمويين، لا سيما حركات الشيعة والخوارج، وكانت هذه الحركات التي تزعّمها كلٌّ من العرب والموالي من الفُرس والبربر وغيرهم تعمل عملها في الخفاء لإحداث انقلابات سياسية في فارس وخراسان وأفريقية والأندلس بعد أن خفتت في جزيرة العرب وفي العراق، فكانت تبدو وتغيبُ والأمويون يترصدون لها، ويشير عبد العزيز الثعالبي في كتابه “سقوط الدولة الأموية” إلى ملمح آخر مهم، فحين رأى العباسيون نجاح انتفاضة البربر ضد والي أفريقية والمغرب والأندلس يزيد بن أبي مسلم عامل الخليفة يزيد بن عبد الملك بن مروان وتمكنهم من قتله، ثم رأوا فشل حركات الشيعة والخوارج في العراق والجزيرة العربية، أدركوا أن الموالي أقدرُ على النجاح الثوري من العرب الذين خبرهم الأمويون وقضوا على قوتهم وشوكتهم[6].
الغريب أن مؤسس الدعوة والثورة العباسية ثم النقباء أو الدعاة الكبار الذين قاموا بالدعوة ضد الأمويين والثورة عليهم كانوا في هيئتهم العليا من العرب حصرا، وأن أبا مسلم الخراساني الفارسي الأصل الذي سيقود الجيوش العباسية، ومَن سيصبح اليد الطولى في انتصار العباسيين طوال سنوات، ومَن سينقلب عليه أبو جعفر المنصور الخليفة الثاني فيما بعد، كان في الأصل أقل رتبة في هذه الدعوة من النقباء الكبار الذين أرسلهم مؤسس الثورة العباسية محمد بن علي العباسي.
هؤلاء النقباء أو كبار دعاة الثورة العباسية في مهدها بخُراسان كانوا من قبائل خزاعة وعلى رأسهم سليمان بن كثير الخزاعي، ومن تميم وشيبان وطيء وبجيلة وحنيفة، وكانت مهمة مجلس النقباء هذا النظر في سياسة الدعوة، وقبول المنضمين إليها وفق شروط صارمة، ثم اختار النقباءُ الاثنا عشر تعيين مساعدين لهم ينشرون الدعوة في جميع أقاليم خراسان، وكانوا يجتمعون كل فترة محددة، واتخذوا لهم شعارات وإشارات سرية يتعارفون بها، وكانت صيغة أداء اليمين لهذه الدعوة: “أبايعكم على كتاب الله عزّ وجل وسُنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، وعليَّ بذلك عهد الله وميثاقه والطلاق والعتاق والمشي إلى بيت الله، وعلى أن لا تسألوا رزقا ولا طمعا حتى يبدأكم به وُلاتكم، وإن كان عدوّ أحدكم تحت قدمه فلا تُهيّجوه إلا بأمر ولاتكم”[7].
وفي تلك الأثناء زادت الثورات والفتن في خراسان، وانقسم العربُ على أنفسهم إلى قسمين؛ فريق يقوده الوالي الأموي القوي نصر بن سيار الكناني يدافع عن هيبة وسيادة الدولة الأموية في هذه المنطقة الشائكة، وقسم آخر يقودهم جُديع بن علي الأزدي الكرماني، وفي تلك اللحظة أرسل رئيس النقباء سليمان الخزاعي على وجه السرعة إلى إبراهيم الإمام العباسي يطلب منه إرسال مَن يمثله في خراسان أثناء الانتقال من الدعوة السرية إلى الثورة العلنية المسلحة[8]
اختمرت الثورة التي ظلّ الدعاة الكبار الاثنا عشر يعملون عليها طوال أكثر من 15 عاما حتى أدركوا جميعهم أنها بحاجة إلى قيادة عسكرية من البيت الهاشمي لجني ثمارها. وفي تلك الأثناء كان بعضُ النقباء حين سُجنوا في البصرة لما شك فيهم الأمويون قد تعرفوا في سجنها على فتى يافع ذكي نابه اسمه عبد الرحمن بن مُسلم مولى ابن سريج الشهير بـ”أبي مسلم الخراساني”، وقد اختاروه وأهدوه للإمام إبراهيم الذي أصبح بمرور الوقت من أقرب المقربين إليه، ورأى فيه أمارات الذكاء والنباهة، فأمره بالتوجه إلى خراسان وقيادة الثورة فيها، “وإظهار التسويد” وهو لبس وشعار العباسيين[9].
أبو مسلم الخرساني يدّعي أنه من سلالة الساسانيين ملوك فارس، وما أن بلغ خراسان والتفّ حوله النقباء وأعوان الدعوة وكثير من القبائل العربية التي كانت ناقمة على الحكم الأموي، حتى انضم إليهم آلاف من الموالي الذين رأوا في أبي مسلم حفيد الملوك الأقدمين الأمل في إعادة الاعتبار لهم أمام السيطرة الطاغية للعرب، وهكذا قاد الثورة العسكرية رجل من الموالي، بينما كان للقيادات العربية السبق في الانتهاض بهذه الدعوة وعلى رأسهم سليمان بن كثير الخزاعي، الذي اعترف له كلٌّ من محمد بن علي العباسي وابنه إبراهيم بالفضل والنباهة والذكاء، وأودعوا فيه كامل ثقتهم لقيادة الدعوة العباسية في خراسان وإيران، بل وطالب إبراهيم الإمام أبا مُسلم الخراساني أن يستشير سليمان في كل أمره.
انطلقت الثورة، ولما رأى الخصوم من قبائل القيسية واليمانية العرب أن الخراساني سيرفع مقام الفُرس والموالي، اتحدوا ضده، وكادوا ينتصرون عليه لولا نباهة وذكاء أبي مسلم الذي تمكّن من ضربهم ببعضهم بعضا، حتى انتصر عليهم جميعا، ودخل العراق ثم الشام وقضى على جيوش الأمويين وخليفتهم الأخير مروان الثاني بن محمد الأموي الذي قُتل في وسط مصر عام 132هـ.
من خلال هذا العرضلعرض سنرى أن الثورة العباسية لم تكن ثورة موالٍ ناقمين على السيطرة العربية المطلقة على رقابهم كما قال كثير من المستشرقين ومَن تابعهم من المؤرخين، وإنما كانت ثورة قادها وخطط لها على أرض الواقع تنظيم سريّ استمر يعمل بلا كلل ولا ملل لما يقارب عقدين من الزمان، وجل قيادته كانوا عربا استطاعوا أن يستغلوا غضب قسم كبير من العرب والموالي لمواجهة الأمويين وإسقاطهم، هذا وقد لقيَ أبو مسلم الخراساني حتفه على يد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور عام 137هـ بعدما رآه خطرا يُهدّد سلطة العباسيين ودولتهم الجديدة.
الجزيرة نت