زيدان كفافي
ما دفعنا لكتابة هذه الخاطرة عن الكنعانيين هو الوعد الإلهي التوراتي الذي أبرمه الرب مع أبرام (ابراهيم) بمنحه وذريته أرض كنعان “وَأُعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ، كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ مُلْكًا أَبَدِيًّا. وَأَكُونُ إِلهَهُمْ» (التكوين 17:8). ويتبادر في ذهني عدد من الأسئلة، هي، من هو هذا الرب الذي قطع هذا الوعد؟ هل هو “يهوه” أم “إيلوهيم”؟ والسؤال الآخر ما هي حدود أرض كنعان التي وعد الرب بها ابراهيم؟ وإذا كان الوعد لنسل إبراهيم، فأين حصة ابنه اسماعيل من الأرض الموعودة؟
فلو قبلنا جدلاً أن أرض كنعان هي سوريا الطبيعية، فما هو عدد أفراد قبيلة ابراهيم حتى تسيطر على هذه المساحة الواسعة؟ كما أنه ومن المعلوم أن عدداً من دويلات المدن كانت تحتل جميع بلاد الشام خلال العصرين البرونزي المتوسط والأخير (حوالي 2000 – 1200 قبل الميلاد)، وعلى افتراض أن ابراهيم وقبيلته عاشوا وتواجدوا في جنوب غربي بلاد الشام في حوالي 1900/1800 قبل الميلاد، فهل استطاعوا السيطرة على هذه الدويلات القوية ؟ هذه قصة توراتية اتكأ عليها الصهاينة في إدعائهم بأن فلسطين أرضاً توارثوها عن أسلافهم. لكن وماذا عن بقية أرض كنعان (من النهر للنهر حسب الزعم التوراتي) ؟
يبدو أن حدود كنعان لم تكن ثابتة، إذ إنها تختلف من نص تاريخي لآخر، ومن فترة لأخرى. لكن بعضاً من العلماء اتفقوا على أنها المنطقة الممتدة من وادي العريش بقطاع غزة بفلسطين جنوباً، وحتى شمالي أعالي جبال لبنان شمالاً، والبحر الأبيض المتوسط غرباً، وحفرة الانهدام (سهل البقاع، جبال الجولان وغور الأردن، والبحر الميت شرقاً) (Hackett 1997: 409).
وحتى تتم نسبة العبرانيين/الاسرائيليين إلى عرق محدد كان لا بد من العودة إلى القصة التوراتية، وبناء عليه أخترعت مصطلحات ، مثل سامية/سامي، وكنعانية/كنعاني ، وحامية/حامي، من قبل قسم التاريخ بجامعة غوتنغن/ألمانيا الذي رأسه كل من غوتفريد شلوتزر (Gottfried Schlotzer) ويوهان غوتغريد أيشهورن (Johann Gottfried Eichhorn) في عام 1787م. وتقول التوراة أن الأسماء “سام” و “حام”، و “يافث” هي أسماء أبناء نوح، كما أن “كنعان” هو إبن “حام” وفقاً لسفر التكوين 10: 1 ” وَهذِهِ مَوَالِيدُ بَنِي نُوحٍ: سَامٌ وَحَامٌ وَيَافَثُ. وَوُلِدَ لَهُمْ بَنُونَ بَعْدَ الطُّوفَانِ”، وسفر التكوين 10: 6 ” وَبَنُو حَامٍ: كُوشُ وَمِصْرَايِمُ وَفُوطُ وَكَنْعَانُ.”
وقام هؤلاء الألمان بإلصاق لغة لكل شخص من هؤلاء، فكانت اللغات السامية، والحامية والكنعانية، وضمت كل سلالة لغوية مجموعة من اللهجات. وبناء عليه أصبح عندنا “سامي”، و”حامي”، و “كنعاني”، علماً أن سكان وادي الرافدين وبلاد الشام، ووادي النيل كانوا على تواصل دائم، واختلطوا وتزاوجوا مع بعضهم بعضاً ، ولم يسكن بلاد الشام طوال الدهر عرق أو جنس واحد بل أجناس مختلفة ومختلطة. على أي حال، هذا هو منهج المدرسة التوراتية، وهذه هي عكازة الصهيونية العالمية التي ربطت بين الآثار والدين والسياسة حتى تحقق أهدافها في تشكيل وطن وعرق واحد يعتمد على القصص التوراتية لأبناء الطائفة اليهودية. وعلى الرغم من هذا، فإننا لا ننكر وجود شعب كنعاني ، وأرض تسمى “كنعان”، لأن هذا مذكور أيضاً في المصادر المكتوبة القديمة، كما هو مثبت أدناه. لكن المشكلة أن الصهيونية العالمية تُسخِّر هذه التسميات لتحقيق أهدافها.
يعتقد كثير من الناس أن الكنعانيين خرجوا من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام، لكن، وحتى الآن، لم تؤكد هذا الأمر أو تنفيه المصادر والوثائق التاريخية المكتوبة(Lemche 1991: 25) . ويمكن وصف الكنعاني بأنه ذلك الشخص الذي عاش في بلاد كنعان، وتحدث بلغة أهلها، وعرّف نفسه بأنه كنعاني. وقد يقول قائل، أين هي الآثار الكنعانية، والجواب هو أنني أرى أن آثار العصور البرونزية وحتى الحديدية المكتشفة في مناطق واسعة من بلاد الشام، بما فيها فلسطين كنعانية.
أشارت النصوص التوراتية إلى أن الكنعانيين شكلوا العنصر الرئيسي من بين سكان فلسطين، وذكروا في أكثر من مكان في النصوص التوراتية (يوشع 13: 4 ؛ العدد 13: 29). وأطلقت التوراة، على سبيل المثال، اسم “ملك كنعان” على حاكم مدينة تل وقاص “Hazor” بشمالي فلسطين (القضاة 4. 2 : 23-24 ). وورد الاسم “كنعان” على شكل kn’n في النصوص الأوغاريتية، والفنيقية/البونية. كما كتب بأشكال مختلفة في وثائق وادي الرافدين، ومصر، وبلاد الأناضول 408) (Hackett 1997: .
والاسم كنعان مشتق من الكلمة “kinahna” ، وهي سامية الأصل، أطلقها سكان وادي الرافدين خلال الألف الثاني على منطقة سواحل البحر المتوسط الشامية. وظهر الاسم “كنعان” أو “كنعاني” لأول مرة في نصوص تل الحريري “ماري” المؤرخة للقرن الثامن عشر قبل الميلاد. واختفى بعدها من الوثائق والنصوص التاريخية، ولم يعاود الظهور إلاَّ في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، في نص للفرعون أمنحوتب الثاني، الذي يذكر فيه أنه طارد الكنعانيين. بعد هذا تكرر ذكر كنعان في وثائق القرون اللاحقة، مثل ما ورد في رسائل تل العمارنة، ونقش الملك “إدريمي” ملك تل العطشانه” “ألالاخ” بشمال غربي سوريا(Astour 1965) .
ويمكننا وصف المجتمع الكنعاني على أنه مجتمع متحضر، عاش في مدن ومراكز حضارية، وكانت التجارة هي الأساس الذي اعتمد عليه الناس للمعيشة. كما أن المجتمع الكنعاني كان متعدد الطبقات الاجتماعية، إذ كان فيه الغني والفقير، والتاجر والعامل والفلاَّح. كما كان للكنعانيين ديانتهم الخاصة، التي تمثلت بتعدد الآلهة وتقديم الأضحيات لها، وتجلى هذا الأمر بكل وضوح في نصوص راس شمرة “أوغاريت” (Miller 1981) . وبلغ الكنعانيون قمة ازدهارهم خلال العصر البرونزي الأخير، وإن كان نجمهم بزغ خلال العصر البرونزية القديمة والمتوسطة (Tubb 1998).
يعتقد البعض أنه لم يتم التعرف على سلالات للأسر الحاكمة في كنعان، وقد غاب عنهم أن الأحوال السياسية في بلاد كنعان تختلف عن وادي الرافدين ووادي النيل وذلك بأن النظام السياسي المتبع كان نظام المدينة-الدولة أو دولة-المدينة. أي أن لكل مدينة حاكم يحكمها، ومن أراد أن يتعرف على بعض أسمائهم عليه العودة لرسائل تل العمارنة، وهنا نذكر على سبيل المثال لا الحصر أسم “عبدي- حبا” حاكم أور-سالم. أعتز بأنني كنعاني ومن أرض كنعان.
زيدان كفافي
الخاطرة 61
عمّان في 12/ 4/ 2023م
أهم المراجع
Astour, M. C. 1965; The Origin of the Terms “Canaan”. “Phoenician” and “Purple”. Journal of the Near Eastern Studies 24: 346-350.
Hackett, J. A. 1997; Canaan. Pp. 408- 409 in E. M. Meyers (ed.); The Oxford Encyclopedia of Archaeology in the Near East, Vol. 1. New York: Oxford University Press.
Lemche, N. P. 1991; The Canaanites and Their Land. The Tradition of the Canaanites. Journal of the Study of the Old Testament Supplement Series 110. Sheffield: JSOT Press.
Miller, P. D. Jr. 1981; Ugarit and the History of the Religions. Journal of the Northwest Semitic Languages 9: 119-128.
Tubb, J. N. 1998; Peoples of the Past. London: The British museum Press.