وطنا اليوم – في الخمسينيات، يحضر قاضٍ عُين في مأدبا، ليرافق مجموعة من الشباب في رحلات بين جبال السلط ووديانها ويحاضر فيهم؛ تحركات لم تعجب بعض شيوخ السلط، فذهبوا إلى والد ذلك القاضي وطلبوا منه أن ينصح ابنه بترك مرافقة «الأولاد» بحسب تعبيرهم. إلا أن محاولاتهم في ثنيه لم تفلح. أما ذلك القاضي فكان محمد عبد الرحمن خليفة النسور، الذي أصبح فيما بعد المراقب العام الثاني لجماعة الإخوان المسلمين. وأما أولئك «الأولاد»، فكان منهم عبد اللطيف عربيات، الذي عاش لينضم للجماعة ويترأس حزب جبهة العمل الإسلامي لسنوات، ويترأس مجلس النواب في مرحلة حساسة بُعيد انتهاء فترة الأحكام العرفية.
برحيله في 26 نيسان الماضي، استُحضر عبد اللطيف عربيات كرمز إسلامي أردني، سواء من قبل رفقائه في الحركة الإسلامية ممن اختلفوا معه أو ممن أيدوه، وممن بقوا في الجماعة أو غادروها. وتحول بيت عزائه إلى محج للمسؤولين، ابتداء بالملك وأفراد الأسرة المالكة، مرورًا برؤساء الوزراء المتعاقبين، وقادة الجيش، والمخابرات، والأجهزة الأمنية.
هذا الإجماع الرسمي والحزبي على عربيات، إن صح التعبير، يجعل من المهم استعادة سيرته ومعاينة الدور الذي لعبه من خلال مؤسسات حزبية ورسمية مختلفة.
نشأة منفتحة
ولد عبد اللطيف سليمان سالم العربيات في السلط عام 1933 لأسرة تعمل في الزراعة. التحق بمدرسة السلط العريقة التي أهلّه دخولها للاشتباك مبكرًا مع خليط واسع من الثقافات الاجتماعية والحزبية، من شيوعيين وبعثيين وإخوان مسلمين. إذ تجاوز عدد طلاب المدرسة حينها 1200 طالبًا من مختلف أنحاء الإمارة، وكان يؤمها معلمون من مختلف أنحاء الأردن وبلاد الشام ومصر والعراق وحتى من الهند لتعليم اللغة الإنجليزية. وأتم عربيات دراسته الثانوية فيها.
عام 1948، استقبلت السلط العديد من العائلات الفلسطينية، وساهم الإخوان كغيرهم في السلط في إيواء اللاجئين، إذ نشطت دار الإخوان في المدينة كمقر أولي للّاجئين قبل توزيعهم على البيوت، واستضافت عائلة عربيات عائلة من يافا واقتطعت لها مساحة في البيت عاشت فيها سنوات قبل الانتقال إلى الزرقاء. وكان تطوع عربيات في مساعدة اللاجئين أثناء انتقالهم من دار الإخوان إلى بيوت العائلات المستقبلة أول عهده بالإخوان.
كانت دار الإخوان أحد مركزي جذب فكري في السلط، أما المركز الآخر فكان نادي جلعاد للاتجاه اليساري والقومي. كان عربيات يحضر المحاضرات والندوات في كلا المركزين، غير أنه انجذب إلى فكر الإخوان بعدما أكثر التردد على دارهم والسماع لمحاضراتهم ومشاركتهم في أنشطتهم الرياضية، ليلتحق بهم رسميًا في نهايات الأربعينيات.
تعرف عربيات وهو لا يزال طالبًا إلى كبار المفكرين الإسلاميين، فقد كان مشاركًا دائمًا في مؤتمر القدس الإسلامي العالمي الذي كان يعقد في القدس كل سنة ويحضره العلماء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي.[2] لذا فقد وفر الوسط الذي نشأ فيه عربيات له ثقافة شاملة وعقلية منفتحة اتصلت مع العالم الخارجي مبكرًا.
عبد اللطيف عربيات (الثاني من اليسار) وهو في نهاية العشرينات من العمر، مع والدته آمنة الحياري وإخوانه.
دراسته وعمله في التربية والتعليم
كان عربيات مصرًا على إتمام تعليمه بعد إكماله للثانوية العامة، إلا أن الأردن لم يكن فيها أي جامعة في ذلك الوقت، إذ لم يكن فيها إلا معهد للمعلمين. لذا تقدم عربيات لمنحة في العراق، ليحصلّ مقعدًا دراسيًا في كلية الزراعة في جامعة بغداد عام 1955. نشاطه السياسي عرضه للمشاكل مبكرًا، ففصل من الجامعة عام 1956 بسبب اعتصام نظمه الطلاب احتجاجًا على العدوان الثلاثي على مصر. إذ تبين بعد التحقيق الذي طلبه نوري السعيد شخصيًا، رئيس الوزراء العراقي وقتها، من عميد الكلية أن عربيات ورفاقه الأردنيين كانوا عرّابي فكرة الاعتصام. لكن عربيات عاد ليلتحق بالجامعة بعد وساطة من المستشار الثقافي الأردني في بغداد، إبراهيم صلاح، وكفالته له كتابيًا بـ1500 دينار. هذه المتاعب استمرت خلال دراسته، إذ كان ممنوعًا من دخول مصر ولبنان وسوريا، ولكنه أتم أخيرًا دراسة البكالوريوس عام 1958.
عاد عربيات من العراق للتدريس على ضفتي النهر، فدرّس في جنين وطولكرم ورام الله والقدس وغيرها من مدن فلسطين، لكنه ظل يسعى لإكمال دراسته، فقدم لثلاث سنوات متتالية لبرنامج الابتعاث في وزارة التربية والتعليم، الذي كان ممولًا من السفارة الأمريكية، ليعلم فيما بعد أن الرفض كان بتنسيب من المندوب الأمريكي. اعترض عربيات لدى وكيل الوزارة وقتها، نور شفيق، الذي تبنى شكواه وهدد بإلغاء البرنامج إذا تم التلاعب بالأسماء المنسبة من الوزارة، وهو ما تم فعلًا، فحصل على المنحة وأكمل الماجستير في جامعة «Texas A&M» في الولايات المتحدة عام 1967.[3]
عاد عربيات إلى وزارة التربية والتعليم بعد تخرجه، وتدرج في المناصب الإدارية، من رئيس مشرفين إلى مدير لدائرة الكتب المدرسية، ليصبح أخيرًا رئيس قسم المناهج في الوزارة. لكنه عاد مرة أخرى عام 1975 إلى الولايات المتحدة لإتمام دراسته في الجامعة ذاتها، ليحصل على شهادة الدكتوراه في التربية عام 1978.[4]
بعد عودته مجددًا، عمل عربيات في وحدة مشاريع البنك الدولي عن كادر وزارة التربية والتعليم، ثم سمي مديرًا عامًا لمديرية التربية والتعليم في محافظة العاصمة واللامركزية، وتم التنسيب به أمينًا عامًا لوزارة التربية والتعليم عام 1982، ليقضي ثلاث سنوات في المنصب كانت حافلة بالضغوطات السياسية. إذ يقول عربيات في مذكراته إن هذه الضغوطات كانت ضمن حملة عنوانها التخفيف من حضور الإسلاميين في الوزارة، إلى أن أثار زيد الرفاعي أثناء ترؤسه لمجلس الوزراء موضوع عربيات، ليحيله وزير التربية وقتها عبد الوهاب المجالي على التقاعد. في اليوم التالي، التقى الرفاعي بعربيات بمبنى رئاسة الوزراء، وقال له بعد القسم «أنه لا بديل لك، ولكن الأمور فوق طاقتي» فأجابه عربيات «دولة الرئيس، ثق لو أنني بقيت في هذه الوظيفة أو كنت معلمًا في قرية أو جالسًا في بيتي ما زاد ذلك بي شعرة ولا أنقص مني شعرة». وينقل عربيات أن الرفاعي طلب منه أن يكون سفيرًا في باكستان إلا أن عربيات اعتذر، دون أن تكون أمامه فرص كثيرة أخرى.[5] حتى أن تقديمه للتدريس في كلية التربية في الجامعة الأردنية قوبل بالرفض «الأمني»، رغم موافقة الجامعة.
بُعيد ذلك، زار عربيات وفد يترأسه رئيس مجمع اللغة العربية، عبد الكريم خليفة، وعدد من أعضائه يطلبون إلى عربيات العمل معهم، ليقضي عربيات ثلاث سنوات أمينًا عامًا للمجمع حتى عام 1989؛ العام الذي شكل انعطافة كبيرة في مسيرة عربيات وفي الحياة السياسية الأردنية بعامة.[6]
دخول الحياة السياسية والنيابية
شهد عام 1989 احتجاجات عارمة عرفت فيما بعد بـ«هبة نيسان»، ابتدأت بمطالب اقتصادية تطورت إلى مطالب سياسية بإنهاء الأحكام العرفية ورفع القبضة الأمنية ومحاسبة الفاسدين. استشعر الملك حسين خطورة الأوضاع الداخلية مع انسداد المشهد الإقليمي، وقرر إجراء «انتخابات حقيقية، وأن يكشف الطنجرة ليرى ما بها» كما يذكر عربيات، نقلًا عن زميل له.
أدرك الملك حسين أنه في ظل الانسداد الاقتصادي لا بد من فتح المجال السياسي، لأن إغلاق المجالين معا سيؤدي إلى الانفجار. أقال الملك حكومة زيد الرفاعي، وجاء بقائد الجيش الشريف زيد بن شاكر رئيسًا للوزراء. وكان تقدير الملك أن اختياره لزيد بن شاكر كرجل عسكري لم ينخرط في السياسة سيقابل بالارتياح والثقة، وأن ذلك سيكون أدعى لمشاركة مختلف المكونات السياسية في الانتخابات النيابية، وهذا ما حصل فعلًا.
على الرغم من استمرار حظر الأحزاب السياسية حينها، دُعي إلى انتخابات نيابية شاركت فيها مختلف القوى السياسية. رشح الإخوان المسلمون 26 مرشحًا نجح منهم 22 نائبًا، كان منهم عبد اللطيف عربيات عن محافظة البلقاء، في انتخابات أفرزت مجلس نواب لعله كان الأقوى والأشد تنوعًا في تاريخ الحياة السياسية الأردنية الحديثة.
بُعيد النتائج، أجرت كتلة الإخوان المسلمين انتخابات داخلية أفرزت عربيات رئيسًا لها، ولكن الكتلة قررت عدم الترشح لرئاسة المجلس في السنة الأولى، واختارت دعم النائب يوسف المبيضين الذي تنافس مع سليمان عرار، ليفوز الأخير برئاسة مجلس النواب في سنته الأولى.[7]
بعدما أدت حكومة زيد بن شاكر الانتقالية مهمتها بإجراء الانتخابات، أقال الملك حسين الحكومة ليكلف مضر بدران رئيس الوزراء المخضرم ومدير المخابرات الأسبق بتشكيل الحكومة.
ابتدأ بدران مسعاه في كسب ود الإسلاميين بضوء أخضر من الملك حسين، فدعاهم للمشاركة في حكومته. أخذ الموضوع جدلًا واسعًا في أوساط الجماعة، إلا أن التصويت الداخلي أفضى إلى قرار بعدم المشاركة في الحكومة. رد بدران بأنه سيعتذر عن تشكيل الحكومة إن اعتذر الإخوان، وهو ما دفعهم إلى إعادة النظر، بعدما أشار البعض إلى أن عدم المشاركة وحجب الثقة عن الحكومة قد يؤديان إلى حل المجلس وإنهاء التجربة الديمقراطية. فتم استحداث خيار جديد تمثل بعرض شروط على حكومة بدران، إن قبلها وجاء بها مكتوبةً إلى المجلس نال عندها ثقة الإخوان، دون المشاركة في الحكومة. شملت تلك الشروط الأربعة عشر إعادة المفصولين سياسيًا إلى وظائفهم، وكانوا قرابة 350 موظفًا، ورفع الحظر عن جوازات السفر المحجوزة لـ14 ألف مواطن ومواطنة وإسقاط شرط الموافقة الأمنية عند التعيين. التزم بدران بتلك الشروط ومنح الإخوان الحكومة الثقة، بعد جلسات ثقة كانت الأشرس في تاريخ الحياة السياسية الأردنية.
في السنة الثانية، قرر الإخوان التنافس على رئاسة المجلس، وكان خيارهم هذه المرة ترشيح نائب منهم مباشرة، فكان عربيات، النائب عن محافظة البلقاء. ترشح سليمان عرار مرة أخرى مدعومًا من الكتلة الوطنية التي تشكلت خلال السنة الأولى من عمر المجلس، وبدأت معركة نيابية تابعها الأردنيون بتعطش كبير، انطلقت معها المناظرات على التلفزيون الأردني وفي صحيفة الرأي، وجرت لقاءات بين المرشحين والكتل النيابية، نتج عنها أن كسب عربيات أصوات ثلاثة نواب من الكتلة الوطنية التي يمثلها عرار، وهم سلطان العدوان وعطا الشهوان وسمير القعوار الذين خالفوا كتلتهم وصوتوا لعربيات. كان حراكًا انتخابيًا ساخنًا شمل جميع الكتل بما فيها كتلة اليسار الوطني، برئاسة فارس النابلسي. وحين جرت الانتخابات وكان قرار كتلة اليسار الوطني الدخول بأصوات بيضاء في الجولة الأولى، ليكونوا مرجِّحين في الجولة الثانية. لكن عربيات حسم الانتخابات من الجولة الأولى بـ41 صوتًا مقابل 28 صوتًا لعرار (من أصل 80 نائبًا في المجلس حينها)، ليعلن عربيات رئيسًا لمجلس النواب، ويبقى كذلك ثلاث سنوات، بوجود أنصار ثابتين له من خارج الكتلة الإسلامية في المجلس.[8]
المجلس الحادي عشر
كانت السنوات التالية في ظل رئاسة عربيات للمجلس مفصلية في الحياة السياسية في الأردن. فداخليًا، أُلغيت قوانين الطوارئ والأحكام العرفية، وسُنت قوانين مثل قانون الأحزاب وقانون الإعلام وقانون نقابة المعلمين، وفُعّلت النصوص الدستورية المتعلقة بمحاكمة الوزراء، وشُددت الرقابة على الحكومة وعلى أبواب الصرف بعد إقرار الموازنة، لتقدم الحكومة أول موازنة في تاريخها بدون عجز. كما طرح المجلس قانون «من أين لك هذا»، غير أن مجلس الأعيان رفضه، ليقدمه النواب مرة أخرى باسم«قانون الكسب غير المشروع»، ويؤخره الأعيان حتى حل المجلس.
أما خارجيًا، فكان للمجلس العديد من المواقف الحاسمة التي أظهرت أن قوة مجلس النواب قوة للدولة في مواجهة الضغوطات الخارجية، وخصوصًا الضغوطات الأمريكية على الأردن بعد اجتياح صدام حسين للكويت، إذ احتمى الملك حسين بموقف النواب ولم يرسل قوات أردنية إلى حفر الباطن للمشاركة في الحرب، مخالفًا قرار الجامعة العربية.[9]
يذكر عربيات أن الملك حسين استدعاه حينها وأخبره بأن الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب اتصل به وأعلمه بوجوب إنزال قوات أمريكية في العقبة والرويشد، لمنع السلاح القادم بحرًا إلى العراق، وأن مدير وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) سيصل عمان بعد يومين للتنفيذ. أجاب عربيات بأن هذا مرفوض وأن الأردنيين بمختلف توجهاتهم لن يقبلوا بقوات أمريكية على الأرض الأردنية. حينها، سكت الحسين سكوتًا فسره عربيات بوصفه ضوءًا أخضر لتصعيد الخطاب ضد الولايات المتحدة، فعقد مجلس النواب مؤتمرًا صحفيًا أكد فيه رفض النواب للمشاركة في الحرب. وحين وصل مدير الـCIA عمان، استقبله الملك وبجانبه جريدة «جوردان تايمز» بعددها الذي غطى هذا المؤتمر الصحفي، ليعطيه الملك الجريدة بعد إعلامه برفض مطلبه قائلًا «لا يمكن لي أن أخالف مجلس النواب»، وهو ما تم فعلًا، إذ لم تدخل القوات الأمريكية الأرض الأردنية، لتستعين بشركة بريطانية لتفتيش السفن في المياه الدولية قبل الوصول إلى مناطق السيادة الأردنية.
لم يكتب لهذه التجربة الديمقراطية الاستمرار، إذ توالت الرسائل الأمريكية مطلع التسعينيات بضرورة إنهاء قانون الانتخاب الذي أفرز هذا المجلس. يذكر عربيات لقاءه مع وفد من السفارة الأمريكية في مقر حزب جبهة العمل الإسلامي، أعلمه فيه الوفد فيه بأن قانون الصوت الواحد لا بد له أن يمر. يذكر مضر بدران قصة لقائه بالسفير الأمريكي في عمان، روجر هاريسون، الذي استشف منه رغبة الولايات المتحدة بتمرير قانون الصوت الواحد في إطار تهيئة الأجواء لتمرير اتفاقية السلام مع «إسرائيل» التي ما كان لها أن تمر بوجود المجلس الحادي عشر.
على الرغم من النتائج المتوقعة لقانون الصوت الواحد وظروفه السياسية، إلا أن عربيات رضخ لمطلب إسحاق الفرحان، الأمين العام لحزب جبهة العمل الإسلامي، بالنزول للانتخابات. ويذكر عربيات لقاءً جمعه بالسفير الفرنسي ونائب السفير الأمريكي أبلغاه فيه بأنه لن ينجح إذا ترشح للانتخابات، وكان ذلك فعلًا، فخسر الانتخابات عام 1993. وعقب النتائج، دعا الملك عربيات وطلب منه أن يكون عينًا. رفض عربيات في المرة الأولى، ليقبل بعد إصرار الملك في المرة الثانية، فكان عضوًا في مجلس الأعيان من 1993 وحتى 1997.[10] كانت تلك التجربة معبرة عن شخصية عربيات وموضعه في الطيف السياسي الأردني، بوصفه معارضًا محافظًا مؤمنًا بالإصلاح من داخل النظام. إلا أن ذلك لم يسلّم عربيات من «المجزرة الانتخابية» عام 2007، فخسر رغم أنه توقع خسارته، بعدما أسرّ له أحد المسؤولين بالقول «لن تنجح يا عربيات ولو صوتت معك الصين»، كما ينقل المراقب العام للإخوان المسلمين وقتها، سالم الفلاحات.[11]
الموقف من أزمة الجماعة
كان عربيات من مؤسسي حزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن عام 1992، بعد إقرار قانون الأحزاب وثالث أمين عام له. كانت الفكرة من تأسيس الحزب حينها هي أن يشكل جبهة واسعة تضم طيفًا متنوعًا من الإخوان وغيرهم. إلا أن عربيات انتقد مآلات تجربة الحزب، وكيف تقلص ليصبح ذراعًا سياسيًا للجماعة، رغم احتوائه في البداية للعديد من الإسلاميين والمستقلين وحتى المسيحيين، في تجربة لاقت اهتمام العديد من الإسلاميين، ومنهم حركة النهضة التونسية.
عام 2015 اعيد طرح اسم عبد اللطيف عربيات ليكون مراقبًا عامًا للإخوان المسلمين بعد الأزمة السياسية والقانونية التي عصفت بالجماعة، وعرفت بـ«أزمة الترخيص»، بوصفه شخصًا توافقيًا قادرًا على إدارة المشهد داخليًا مع «الجمعية المرخصة» بقيادة عبد المجيد ذنيبات، ومع النظام السياسي. لكن تلك المحاولات لم يكتب لها النجاح لمعارضة البعض داخليًا، الأمر الذي حذا بعربيات للاعتذار.
لكنه بقي ملتزمًا بالجماعة التاريخية حتى مماته، على الرغم من انتقاداته المعروفة تجاه خط إدارتها. إذ قاد العديد من المبادرات «الإصلاحية» الداخلية التي لم تنجح، وأبرزها مبادرة حكماء ورغم مواقفه تلك، إلا أنه حاول التوسط لدى النظام وطلب مقابلة الملك مرتين عامي 2015 و2016 لتخفيف الضغط على الجماعة، لكن لم تتح له فرصة لقاء الملك،[12] لتغلق بذلك في وجه عربيات أبواب لطالما كانت مفتوحة.
ختامًا، فقد كان مشهد بيت عزاء عربيات تعبيرًا عن الاتفاق عليه من الجانب الرسمي ومن قيادة الحركة الإسلامية. فهل كان ذلك إقرارًا متأخرًا بحكمة الرجل، وتقديرًا بأثر رجعي لأدواره الكبيرة ومحاولة لاستعادة نموذجه؟ أم هو فرصة لفتح خطوط تواصل بين النظام والإخوان أصابها كثير من الاهتراء نتيجة ارتدادات الربيع العربي؟ أم أن الأمر لا يعدو مشاركة اجتماعية في تقدير الراحلين دون أي حمولات سياسية؟
هذا سؤال يهم الباقين، أما عربيات فقد رحل بهدوء مخلفًا وراءه إرثًا كبيرًا لتجربة ديمقراطية لا زال كثير من الأردنيين والأردنيات يرون فيها نموذجًا أثبت نجاحه في مواجهة الظروف الصعبة خارجيًا، والخانقة داخليًا سياسيًا واقتصاديًا.