سلام على إربد مدينة الثقافة الدائمة 

12 يناير 2023
سلام على إربد مدينة الثقافة الدائمة 

زيدان كفافي

حظيت بدعوة من مؤسسة إعمار إربد أن أدلو بدلوي حول تاريخ محافظة إربد وآثارها قبل الإسلام ، فكتبت كتاباً قدم له دولة الأستاذ الدكتور عبدالرؤوف الروابدة رئيس مجلس إعمار إربد، ونشرته وزارة الثقافة مشكورة قبل أشهر. وحيث أنني قضيت أكثر من نصف عمري في مدينة إربد، رأيت من الضرورة بمكان أن أقدم مختصراً مما نشرته في الكتاب على شكل خاطرة ، من أجل التعميم بتاريخها. وإذا كان الكتاب ضم حديثاً حول تاريخ محافظة إربد قبل الإسلام، فإننا سنركز في هذه الخاطرة على المدينة نفسها. 

تقوم مدينة إربد الحالية فوق تل اصطناعي يزيد عمره على الخمسة آلاف عام، ويعدّ أكبر التلال الأثرية في جنوبي بلاد الشام، إذ يمتد بين شارع السينما ومخيم إربد، ويضم في باطنه بقايا مدينة إربد الأثرية والتي بدأ بناؤها في حوالي 3600 قبل الميلاد، وأحيطت بسور في فترة لاحقة، ربما في حوالي 2500 قبل الميلاد، وما تزال حجارته الكبيرة ظاهرة للعيان في الجهة الغربية للتل. ويذكر لانكستر هاردنج/ مدير دائرة الآثار الأردنية حتى عام 1956م أنه كان لهذا السور امتداد في الجهة الشرقية للتل وعلى طول شارع رئيس مار من هناك (وهو إما شارع الهاشمي، أو السينما، وعلى الأغلب الأخير)، لكنه هدم عام 1937م عندما وسعت بلدية إربد الشارع. يقف تل إربد شامخاً ومطلاً على غيره من البلدات والقرى في المحافظة، تاريخه مجبول بتراب يحاكي قصص أجيال عمرها أكثر من خمسة آلاف عام.

وإضافة إلى إقامة الناس في تل إربد خلال الألف الرابع قبل الميلاد، فقد أقام الناس في المناطق القريبة، والمحيطة بالأودية خاصة وادي الشلاله وأسسوا أولى المدن في جنوبي بلاد الشام، وهي تل الفخار وخربة الزيرقون. 

منظر عام لوادي الشلالة وعلى جانبيه موقعي تل الفخار والزيرقون

(تصوير يوسف الزعبي)

ويدل هذا على أن الفلاحين الأوائل في محافظة إربد، كانوا أول من طوروا قراهم إلى مدينة، وتوصلوا إلى حالة حضارية متقدمة، هي المدنية (Urbanization)، أي يحكمها دستور وقوانين ولها حاكم وجيش. وبهذا يكون موقع خربة الزيرقون قد وصل إلى مرحلة الدولة-المدينة، كغيرها من العدد القليل من مدن – الدول التي ظهرت في بلاد الشام خلال الألف الرابع قبل الميلاد.

مخطط للمدينة العليا من مدينة الزيرقون حيث يظهر جزء من سور المدينة والبوابة الشمالية والمعبد والقصر

وفي الوقت نفسه الذي أخذ فيه موقع خربة الزيرقون يتحول إلى حالة التمدن، ظل تل إربد وغيره من القرى الأخرى في المنطقة قرى للفلاحين، بعضها كبير المساحة ومحصن، مثل تل إربد وتل زرعا، وأخرى صغيرة المساحة، مثل تل كفر يوبا، علماً أن تل إربد يعدّ أكبر التلال الأثرية في الأردن مساحة، إلاّ أن الحفريات التي أجريت فيه قليلة جداً، وعلى مستوى بسيط؛ كما أنه وللأسف تعرض للدمار نتيجة لتجريف أطرافه التي جرت خلال السنوات المتعاقبة لبناء محلات تجارية وغيرها من الأبنية. وهذا أفقد الباحثين معلومات كثيرة عن طبيعة مدينة إربد في العصور السابقة للإسلام.

ودلت المسوحات الأثرية في مناطق غربي وجنوبي إربد على انتشار حقول من النصب الحجرية (دولمنز) تعود بتاريخها أيضاً للألف الرابع قبل الميلاد وما تلاه من فترات. وللأسف، فإن كثيراً من هذه النصب الحجرية دمرها الناس لاستصلاح الأراضي للأغراض الزراعية.

نصب حجري (دولمن) بالقرب من بلدة الجحفية

جرت في تل إربد بعض الحفريات الإنقاذية عن طريق دائرة الآثار العامة، خاصة بعض القبور. ولقد وجد في داخل بعض هذه القبور أن أهل تل إربد وخلال الفترة بين حوالي 1550 – 1200 قبل الميلاد كانوا على تواصل مع قبرص وبلاد اليونان بدلالة العثور على أواني مستوردة من هذين البلدين. ويمكن للمهتم رؤيتها في متحف السرايا المقام فوق التل. كذلك تم ملاحظة وجود رسم على واحد من الأواني (رقم 41) وبعد الدراسة تبين أنها ربما تكون لفرعون يصيد أسوداً في المنطقة المحيطة بالمدينة.

ويظهر أن مدينة تل إربد كانت على أهمية كبيرة خلال النصف الأول من  الألف الأول قبل الميلاد (باعتقادنا أنها تبعت لمملكة دمشق الآرامية)، وذلك لأنها كانت محاطة بعدد من التلال الأثرية خاصة في جهتها الغربية مثل، تل الأشيعر، وتل بيت يافا، وتل جحفية. ونجزم أن الناس كانوا في بحبوحة من العيش إذ اعتمدوا الزراعة بشكل خاص في اقتصادهم.

وبقيت المدينة إربد تلعب دوراً هاماً في الفترات الكلاسيكية (اليونانية والرومانية)، ويكفي أنها كانت واحدة من مدن الديكابوليس. ويظهر أن المدينة ومحيطها من مدن أخرى قد لقيت اهتماماً كبيراً ، وتطورت بشكل كبير خلال الفترة بين حوالي 332 قبل الميلاد وحتى مجيء الإسلام، والانتصار في معركة اليرموك.  ويكفيك إذا اتجهت شمال إربد تمر بمدن كلاسيكية عظيمة من أمثال بيت راس والقويلبة وأم قيس، وأما إذا اتجهت جنوباً فيصافحك تل الحصن، ولا تنسى إيدون (لم يجرى فيها أي تحريات أثرية) بوابة عجلون. 

إربد بلد العلم والعلماء وأهل السياسة والقادة لك مني ألف تحية، ومهما سطرنا من تاريخك فلن نفيك حقك، لكن من حقك أن تكوني العاصمة الثقافية العربية لعام، وعاصمة الأردن الثقافية الدائمة. كيف لا ومحافظة إربد الشاهدة على:

  1. تأسيس مدينة خربة الزيرقون في حوالي 2800 قبل الميلاد، وتعدّ من المدن الأولى في جنوبي بلاد الشام.
  2. أرسل حاكم مدينة طبقة فحل (موت – بعلو) رسالة إلى الفرعون المصري في حوالي 1400 قبل الميلاد، وهذه تعدّ أول مخاطبة سياسية دبلوماسية ترسل من حاكم في الأردن إلى ملك خارج البلاد.
  3. زار السيد المسيح عليه السلام بلدة أم قيس، كما هرب المسيحيون من فلسطين خوفاً على حياتهم في حوالي 70 ميلادي من الروم إلى طبقة فحل.
  4. جرت على أرض محافظة إربد معركتا فحل (سنة 13هجرية/ 635 ميلادية)، واليرموك (سنة 15هجرية/ 636 ميلادية)، كان النصر حليف المسلمين، وبهذا انتشر الاسلام في كل أنحاء بلاد الشام، كما تخلصت البلاد من حكم الروم.
  5. نجزم أنه كان لوقوف سكان محافظة إربد بغض النظر عن ديانتهم، وإن كان أغلبهم -إن لم يكن جميعهم- من المسيحيين، إلى جانب جحافل الجيوش الإسلامية وتزويدهم بالطعام والشراب أثر كبير في تحقيق الانتصار. من هنا، ومرة أخرى، محافظة إربد أرضها وأهلها ترفع لهم القبعة لدورهم الحضاري والعروبي عبر العصور المختلفة.

منظر عام لوسط مدينة إربد الحديثة الراقدة فوق تل إربد الأثري

(تصوير يوسف الزعبي)

أقول في نهاية هذه الخاطرة، شكراً لإربد على ما قدمت وتقدم للوطن، لا أقول وداعاً ولكن إلى لقاء.

زيدان كفافي

عمّان في 12/ 1/ 2023

المراجع:

كفافي، زيدان 2022؛ تاريخ محافظة إربد وآثارها قبل الإسلام. عمان: وزارة الثقافة