بقلم: د. عادل يعقوب الشمايله
قبل ان ابدأ بحديثي عن جمال، علي ان أُبرئ نفسي من تهمتي التملق والنفاق التي سيصدرها علي من لا يعرفني. لأن من يعرفوني متأكدون من برائتي منهما.
لقد تنقلت علاقتي مع جمال ما بين محطتي “الود والقطيعة” عدة مرات خلال الثلاثين سنة الماضية. ومنذ ان تولى رئاسة مجلس ادارة البوتاس قبل ثماني سنوات على الاقل زرته ثلاث او اربع مرات. في احداها وفي عام ٢.١٤ طلبت منه تعيين ابنتي التي تخرجت من كلية الهندسة في الجامعة الاردنية. حول جمال الطلب الى ادارة شؤون الموظفين دون تعليق، وانتهى الطلب هناك، ولم اراجعه ولم اعاتبه. فقد رزقها الله بفرصة عمل افضل بكثير.
بدأت علاقتي مع جمال عام ١٩٩٢ عندما اقنعني امين عام وزارة المالية آنذاك السيد سليمان حافظ الذي اصبح فيما بعد وزيرا، بالانتقال الى مؤسسة الاتصالات السلكية واللاسلكية ( اورنج حاليا) لاستلم وظيفة مساعد المدير العام للشؤون المالية التي كان يشغلها هو قبل المساعد الذي خلفه ثم أُقيل، لأن جمال يبحث عن شخص يشغلها. كانت وظيفتي وقتها مستشارا لوزير المالية، وكان جمال نائبا ووزيرا للاتصالات.
عملت سنتين فقط في مؤسسة الاتصالات استقلت بعدهما لخوض الانتخابات النيابية. خلال عملي في المؤسسة كنت على تواصل يومي معه.
وجد جمال مؤسسة الاتصالات التي كان يرأس مجلس ادارتها في حالة ترهل واضح، وبالاخص الوضع المالي والاداري حيث تتراكم ديون لها بعشرات الملايين على المشتركين، في الوقت الذي كان الاردن، مواطنيه ومؤسساته الاقتصادية، يعاني من ازمة خانقة في توفر الهواتف وخدمات الاتصالات الحديثة، وكان ضجيج التذمر من ذلك الوضع عاليا. أي سوء التواصل داخليا ومع العالم الخارجي. فقد كان على طالبي الخدمة الانتظار لسنوات حتى يحصلوا عليها. وكان الامر شديدا على المصانع والشركات والبنوك. لدرجة ان عددا من المستثمرين اللبنانيين والعرب قد غادروا الاردن لهذا السبب، واخرين غادروا قبل ان يتورطوا. وكان الفساد ضاربا اطنابه في توزيع القليل المتوفر.
من جانبي، شرعت منذ الايام الاولى في اعادة هيكلة الدوائر المالية التابعة لي والتخلص من المدراء ورؤساء الاقسام المعيقين والفاسدين. وتم استبدالهم بالاستقطاب بدماء جديدة، ونظمت العديد من الدورات التدريبية داخل المؤسسة وخارجها لرفع كفاءة الموظفين الذين كان معظمهم يحملون مؤهلات علميه متواضعة. وطالبت بتقديم حوافز ماليه استثنائية للموظفين المجدين فوافق مجلس الوزراء بناءا على اصرار من جمال.
كان كل ذلك يتم باشراف الوزير جمال ودعمه المطلق لتجاوز المسؤولين المُعطلين الذين كانوا مرتاحين للوضع السابق، والذين كانوا يظنون ان الزمن قد توقف عند خبراتهم السابقة.
تمت عملية مسح شامل لكافة المكاتب التابعة للمؤسسة ومكاتب البريد في المملكة وكانت اللجان تواصل العمل حتى في الليل. عثرت اللجان على سجلات رسمية مهملة تتضمن ذمما مالية للمؤسسة بالملايين مركونة مع القمامة واخرى تعرضت للامطار وغيرها تركت في العمارات التي كانت تشغلها مكاتب المؤسسة ورحلت منها. كما تم العثور على دفاتر ايصالات مزورة من قبل بعض امناء الصناديق ومدراء مكاتب البريد الذين كانوا يثبتون عليها عُشر المبالغ التي يقبضونها من المشتركين ويسرقون الباقي. تم انصاف المواطنين وشطب المطالبات غير المحقة المكررة عنهم واحيل المزورون الى القضاء . ولولا جمال لمنعت الواسطات من تحويلهم ليستمروا في فسادهم يعيثون.
بعد حصر الذمم بدأت مرحلة التحصيل التي تطلبت الفصل الشهري للخدمات عن الالاف شاملة خدمات الهواتف العادية وهواتف السيارات والتلكس. وهنا كان اول اختبار للنائب الوزير الشاب الذي لاول مرة يتولى عملا حكوميا في الاردن. كان قراره واضحا وشجاعا، تفصل كافة الهواتف والخدمات التي عليها ذمم بغض النظر عن شخصية وموقع ووظيفة ومركز مالكها، فردا او شركة. طال الفصل اشخاصا لم يتوقعوا ولم يتوقع احد الاقتراب منهم. غضبوا، زمجروا، هددوا، توسطوا، فلم يجدوا الا جدارا موصدا. النتيجة اذعنوا ودفعوا. كما قمنا بمتابعة تحصيل الديون على الحكومة السورية التي لم تكن تحسب للاردن اي حساب وكأنه مجرد محافظة سوريه، وكذلك بقية الديون الدولية وخاصة مع حكومة قطر.
كانت الايرادات المقدرة في قانون الموازنة العامة لعام ١٩٩٢ (٨٦) مليون دينار. في نهاية العام بلغت الايرادات الفعلية المحصلة (١٠٣) ملايين ، اي بزيادة ١٧ مليون دينار عن المتوقع. وفي السنة التي تلت بلغت ايرادات المؤسسة (١٣٥) مليون دينار. أي بزيادة ٣٢ مليون دينار. اي ان الفرق خلال سنتين عما سبقهما بلغ ٤٩ مليون دينار.
مكنت هذه التحصيلات المتصاعدة المؤسسة من الحصول على موافقة وزير المالية القوي الامين باسل جردانه على استثنائها من قرار تجميد الانفاق الرأسمالي الذي فرض على الموازنة العامة بموجب برنامج الاصلاح الاقتصادي الموقع مع المؤسسات الدولية عقب الانهيار الاقتصادي عام ١٩٨٨.
أًنشئ مركز للحاسوب خاص بالمؤسسة بكلفة مليون ونصف المليون دينار بعد ان كانت تعتمد كليا على حاسوب الجمعية العلمية الملكية مما كان يتسبب بتأخر العمل في المؤسسة وتراكم الذمم على المشتركين. اعقب ذلك تم الشروع بالبرنامج الوطني للاتصالات والذي هدف لرفع عدد الهواتف من اقل من مائتي الف الى تسعمائة الف خط. ثم التوجه الى إضافة خدمات الاتصالات الحديثة التي بدأت تظهر تباعا واخرها الهواتف الخلوية الى سلة الخدمات السابقة. وبذلك تم وضع الاسس لشركة اتصالات وطنية حديثة وطموحة قدمت خدمات جلا للمواطنين وللاقتصاد وللدولة بجناحيها المدني والعسكري.
لا ينكر الا جاحد او اعمى ما آلت اليه شركة البوتاس منذ أن تولى جمال الصرايره اعلى منصب فيها. فقد اصبحت شركة وطنية يعرفها معظم الاردنيون. انزلها جمال من القمر الى الارض لتعمل وسط الناس وبهم ولهم. اذ وضعت الشركة بصماتها الرحيمة في كافة مستشفيات المملكة ومكنتها من رفع جاهزيتها لخدمة المرضى الذين لا يعرفون جمال الصرايره. كما وصل عطائها واسهامها لمعظم النوادي الرياضية والجمعيات الخيرية والبلديات وقطاع المياه وغيرها مما لا اعرف.
واذكر انني سألته في احد اللقاءات بعد ان علمت عن توزيع الشركة لعدد كبير من اجهزة غسيل الكلى، لماذا لم يصدر خبر اعلامي منه بذلك، اجاب انني غير معني بالدعاية الشخصية ولا انوي الترشح للانتخابات، ولا اتطلع الى الثناء. واضاف أن على الشركة، رغم ان ملكيتها متعددة الجنسيات، ان تقوم بمسؤوليتها المجتمعية. عليها ان تعطي مقابل ما تأخذ. وهذا يقع تحت مفهوم التنمية المستدامة. لقد اردن جمال الصرايره روح شركة البوتاس وقلبها. وتحت قيادته زاد انتاجها وأنجبت شركات اخرى وظفت الالاف ودعمت الاقتصاد الاردني بمئات الملايين سنويا بعد ان تضاعفت صادراتها مستعينا بنوعية الانتاج وتنوعه، وارادة الشاعر:
دققت الباب فلم يكل متني، فلما لم يكل متني كلمتني.
وها قد انتقل جمال الصرايره الى موقع جديد من مواقع المسؤولية بحاجة ماسة لخبرته ومواهبه وروحه المرحة ونكاته، وصرامته الودودة. ادعو له بكل التوفيق ودوام الصحة.