40 الف دينار ثمن سيارة لمسؤول …المال العام بين الحكومة الأردنية ومنظومة التشريع الاقتصادي الإسلامي (1)

2 يوليو 2022
40 الف دينار ثمن سيارة لمسؤول …المال العام بين الحكومة الأردنية ومنظومة التشريع الاقتصادي الإسلامي (1)

ة

د. مصطفى التل

هذه مقدمة عامة لندخل في هذه السلسلة , والتي سيتم تخصيص الجزء الثاني منها لمصطلحات متخصصة بالمال العام في التشريع الاقتصادي الاسلامي , ونسقطها على واقع ادارة المال العام من قبل الحكومة الاردنية , حتى نستطيع معاينة الواقع بين المتأمل منه شرعا , وما هو موجود فعلياً .

الحكومة الأردنية تحصر نظرها بالمال العام وصيانته من خلال ما يسمى ( مكافحة التهرب الضريبي والجمركي) , وادراج المنح الدولية والقروض في القوائم المالية التي تنظم ما يسمى ( الانفاق العام ) , وتكتفي بهذا القدر , بما أن جميع الانفاق العام مهما بلغ , منضبط بقوائم مالية متاحة لاطلاع المختصين وابناء الشعب ممن يريد الرجوع إليه , وبهذا تكون الحكومة الأردنية تميّزت بالشفافية المطلوبة اعتقاداً أن هذا غاية المطلب منها .

عززت الحكومة الاجراءات السابقة , بتعديل قانون ديوان المحاسبة , وقانون النزاهة ومكافحة الفساد , وقانون الكسب غير المشروع , وقانون مكافحة غسيل الأموال .

والحكومة الاردنية انفردت بالتوجيهات للجهات التنفيذية بضرورة تنفيذ ما سبق بدقة , ويجب على الجهات التنفيذية أن تستحث الخطى نحو متابعة ما صدر من قوانين وتعديلاتها , وتعتقد الحكومة أنها بهذا الامر , تستطيع أن تعيد ثقة المواطن الأردني بالإجراءات الحكومية في ادارة المال العام والحفاظ عليه .

الحكومة الاردنية أصبحت متخمة بالتشريعات , ومشاريع القوانين , وتعديلاتها , بل اصبح الاردن معروف بــ( التخمة التشريعية) , بدون أن يلمس المواطن أي أثر لهذه القوانين في تحسين الواقع المعاش أو تحصين المال العام من الهدر , والمبالغة في الانفاق العام .

وسط وضع راهن خانق , اقتصادي وسياسي , تعداها للوضع الاجتماعي بمختلف أبعاده , تطل علينا الحكومة بعدة رؤوس فاجعة للمواطن وثقته في ادارة المال العام , وتهدم عنده أي ثقة بهذه الإدارة , مهما حاولت الحكومة جهدها في تبييض الصورة العامة .

مجموعة خاصة جدا من الموظفين العمومين , يتقاضون رواتب وميزات بآلاف الدنانير من الخزينة العامة , عدا عن رفاهيتهم المطلقة الوظيفية والتي تعدت الى عائلاتهم الخاصة , من سكن وظيفي وسائقين وخدم , والطاقة والمياه , والتنقل , والصحة والعلاج , وغيره الكثير مما لم يتم ذكره , وهم في حصانة عن اي قانون يسألهم عن هذه الرفاهية ومن أين مصدرها , وهل يحق لهم أن يرفلوا بهذه الرفاهية , في حين أن الشعب يزحف على بطنه ..!!!

في وقت قاتل اقتصاديا للشعب الأردني , وفي أثناء جفاف حناجر الحكومة بمختلف أطيافها , نتيجة مناداتها على ضرورة الحفاظ على المال العام , والمحاولات الحكومية المستميتة في اقناع الشعب الأردني بأن يرضى بكسرة خبز وشربة ماء إن وجد , وأن يحمد الله تعالى على هذه النعمة التي أنعمت بها الحكومة على هذا الشعب , نتيجة جهد خارق للجهود العالمية في توفير هذه الكسرة من الخبز وشربة الماء لمواطنيها , تصدمنا الحكومة الرشيدة حفظها الله ورعاها , بشراء مجموعة سيارات فارهة لما يسمون أنفسهم ويسميهم القانون الوظيفي ( أمناء عامون ) لوزارات وغيرها , وشددت الحكومة على أن لا يزيد ثمن السيارة الواحدة عن 40 الف دينار أردني , وألا يزيد محركها عن 2500 سي سي , وأن تكون موفرة للطاقة بمعنى أن تكون هجينة , في سعي واضح من الحكومة الرشيدة أعانها الله تعالى , على ترشيد انفاق المال العام , وهي تستميت في الحفاظ عليه كما سلف من قول .

حقيقة يبدو أن الحكومة الاردنية أضاعت بوصلتها الاقتصادية في الانفصام الواقعي الذي يظهر على تصريحاتها الاعلامية , وما يعاكسه من التوسع في الانفاق الرأسمالي , على سيارات ومكاتب ورواتب وميزات وتسهيلات ومكافآت بألاف الدنانير لفئة محدودة من الموظفين العمومين , وضمان رفاهية اقتصادية مطلقة لهم ولأسرهم , على حساب المال العام .

الحكومة للأسف الشديد تاهت عن أقطاب بوصلتها الاقتصادية في المال العام , لانفصامها بين أمرين , وخلطها بينهما بحيث لم تعد تُفرق بينهما , بين التحديث التي تسعى اليه في الاقتصاد كما تقول , وبين عمقها التشريعي العام وضوابطه و التي أعلاها الشريعة الاسلامية بلا منازع , وما تمخضّ عنها من قواعد عامة في الاقتصاد والسياسة والاجتماع وغيره .

وانني أعلم تمام العلم , أن مصطلح ( المال العام في التشريع الاقتصادي الاسلامي ) , سيأتي لبعض ممن في الحكومة والجهاز العام الوظيفي بجلطة ثلاثية الأبعاد , ان لم تكن تفصمهم من حيث الجذور , ذلك أنهم لا يعرفون من الاسلام إلا الشعائر , من صلاة وصيام وزكاة وهي اختيارية غير الزامية , والاسلام ليس الا مجموعة نصائح روحية , لا يتعدى أكثر من ذلك , وانه لا يصلح للتشريع الاقتصادي , ولا حتى مجرد ذكره كمصطلح عام .

على كل حال , لهم دينهم الاقتصادي ولنا ديننا الاقتصادي, وليس لنا من الأمر إلا التبيان والتوضيح معذرة لنا أمام الله تعالى , والقيام بفريضة ( النصح لأولياء الامور ) , واخلاصاً لله تعالى أولاً وقبل كل شيء , أننا حاولنا على قدر استطاعتنا واستنفذنا جهدنا , ولم يبقى للجهد أي متسع في هذا , لعله يكون شفيعاً لنا أمام الله تعالى يوم الموقف العظيم , الذي لا يوجد فيه مسؤول ولا حصانة ولا قاضٍ إلا ملك الملوك ورب الأرباب .

* مالك المال العام في الشرع الاسلامي :

ورد في سنن أبو داوود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الخمس وهو جزء من المال العام : (ما أعطيكم، ولا أمنعكم، أنا قاسم، أضع حيث أمرت) وفي لفظ: (إن أنا إلا خازن( , حيث بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم , أنه لا يملك المال العام ولا يملك هو نفسه التصرف فيه , واتما هو مجرد منفذ للوكالة فيه , قائم عليها , يقسمه ويصرفه كيفما أُمر عليه الصلاة والسلام , فلا يملك حق الاعطاء لمن لا يستحق , لا اكراماُ ولا مكافأة ولا تكريماً ولا زيادةً , ولا يملك حق المنع عمن يستحق .

ابن تيمية رحمه الله تعالى – بعد إيراده هذا الحديث- يقر ويشرح على هذه القاعدة التشريعية الملزمة في كتابه السياسة الشرعية : ( فهذا رسول رب العالمين قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بإرادته واختياره، كما يفعل المالك الذي أبيح له التصرف في ماله.. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم – على عظم منزلته – لا يملك المال العام، كان من بعده من ولاة الأمور أولى بذلك؛ لأن غاية منزلتهم أن يكونوا خلفاءه (

أبو عبيدة في كتابه الاموال مفرقاً بين المال العام والخاص يقول : ) ومال بيت المال ليس مال الخليفة بل فيء الله) , بينما يؤكد الشوكاني في الجزء الثالث من كتابه – السيل الجرار – على الفرق بين المال العم والخاص من حيث التملك والتصرف فيه حيث يقول : (بيت المال هو بيت مال المسلمين، وهم المستحقون له) , مع ملاحظة اختلاف المصطلحات حسب مناسبتها للعصور , فبيت مال المسلمين هي الخزينة العامة بالمفهوم الحديث .

فلا يحق لأي كان أن يتصرف بالمال العام وكأنه ملك خاص له , لا رئيس وزراء , ولا وزراء , ولا أي كان مسماه الوظيفي في شرعنا الحنيف , انما هم أحد أفراد من هذا الشعب فقط , لا ميزة لهم تحصنّهم وتميّزهم عن بقية الشعب في التصرف بالمال العام من حيث الرفاهية الاقتصادية , ولا من حيث المكافآت والمزايا التي أصبحت من لوازم تقلّد المناصب في هذا العصر .

وما مقامهم في المال العام إلا مقام نائب للشعب بالمفهوم الحديث , وكلّه فيه ليقوم على حفظه وتسخيره للصالح العام من انماء ورخاء , وزيادة فيه , لا نقصان , وانتقاص منه ., لا أن يتخذوه مغنما يتخوّضون فيه بغير وجه حق , ويسخروه لرفاهيتهم الخاصة من مكاتب وسيارات وخدم وحشم , وقصور وفلل بحجة سكن وظيفي , ومكافآت وغيره .

يقول ابن العربي في كتابه احكام القرآن عن المال العام ومقام الأمير فيه : (الأمير.. نائب عن الجميع في جلب المنافع، ودفع المضار) , بينما ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول عن الأموال العامة في كتابه السياسة الشرعية : (وليس لولاة الأمور أن يقسموها بحسب أهوائهم، كما يقسم المالك ملكه، فإنما هم أمناء ونواب.. ليسوا ملاكاً) .

بينما ابن رجب في كتابه الاستخراج يوضح ما هو موقع المسؤول العام من المال العام بقوله : (والإمام هو النائب لهم، والمجتهد في تعيين مصالحهم)

ففقهاء التشريع الاقتصادي الاسلامي , عبروا عن وظيفة المسؤول العام وموقعه من المال العام بتعابير متقاربه، وهو أنه وكيل عن المسلمين، أو وصي عنهم فيه كما ورد في الجامع لأحكام القرآن الكريم للقرطبي ، وهذه الألفاظ الثلاثة تشترك في الدلالة على أمر هو المقصود – هنا – وهو أن ولي الأمر حين يتصرف في المال العام فإنه لا يتصرف فيه بالأصالة، وإنما بالنيابة، أو الوكالة.

فالمال العام هو ملك لعموم الأمة في الدولة , وبطبيعة الحال حسب الحالة الراهنة , هو الشعب , فلا يحق لأي مسؤول مهما كانت صفته أو مكانته أو مسماه الوظيفي أن يستأثر بأي من المال العام لمصلحة رفاهيته الاقتصادية عدا عن رفاهية أسرته , وراحته , بل بيّن فقهاء التشريع الاقتصادي الاسلامي , أن ما يأخذه المسؤول من المال العام كراتب أو مكافأة ان حصلت أسبابها الشرعية الحقيقية , ما يكفيه بالمعروف هو ومَن يعول فقط , وهنا امرين دقيقين جدا , وهما ( مَن يعول ) , و( بالمعروف ) .

فالأول مَن يلزمه اعالتهم , مثل زوجته وأطفاله , أو أب وام وما تعلق بالإعالة شرعا , وهذا قيد قانوني , يحرّم ويحرم المسؤول من الأعطيات والكرم الزائد لغيره بمختلف المسميات من المال العام . وان حصل فلا اعتبار قانوني له حسب التشريع الاسلامي , وعليه أن يكفل اعادته الى الخزينة العامة , بعد محاسبته على تجرءه على المال العام بغير حق قانوني , بعد عزله وكف يده عن المال العام .

الثاني ( بالمعروف ) , والمعروف هو السائد بين الشعب كأمر معروف تحصل به الكفاية المادية وتحصنّه من الحاجة التي لا تصلح بأن تكون في مسؤول عام , وهذا قيد قانوني يخرج مفهوم ( الرفاهية الاقتصادية الوظيفية والاجتماعية المبالغ فيها ) من مفهوم لوازم المنصب العام , ولوازم الموظف العام الاقتصادية وغيرها , وعليه فإنه من يتعداها بالتشريع الاقتصادي الاسلامي , يحاسب محاسبة عسيرة , ويعيد ما استهلكه بالزيادة للخزينة العامة للدولة , بعد عزله وكف يده عن المال العام .

فسيارة بمبلغ 40 الف دينار أردني لمسؤول عام , أين تقع من هذه القيود القانونية الشرعية ؟! ألا يستطيع الأمين العام في الوزارات المختلفة , أن يركب سيّارة هجينة بمبلغ 10 الاف دينار مثلاً ؟! مخه يتعطل عن الابداع إن لم يركب سيارة دفع رباعي ؟! ثمن هذه السيارة أليس من المال العام في الأردن ؟! ألا يوجد اسطول النقل الحكومي الأردني الذي أغلبه لا نعرف لماذا هو موجود , سيارة تليق بمقام ( أمين عام ) , يتم التناقل بها , إلا سيارة حديثة هجينة بدفع رباعي ؟! .

لا يقتصر الامر على سيارات هؤلاء الموظفين المخصوصين , كنت في زيارة لإحدى البلديات في الأردن لمعاملة اريد اتمامها يوم أمس , وبتنقلي بين المكاتب المختلفة , لا تجد مكتباً واحداً إلا وفيه مكيف هواء يعمل , من المكيفات التي تزيد عن طن ونصف , وابواب المكاتب مشرّعة , وبعضها خال من الموظفين, الكارثة الكبرى أن مكتب ديوان المحاسبة في نفس المبنى ويمارس عمله ومشمول كذلك بهذه الحالة , انفصام رسمي ما بعده انفصام !!

هذا مثال بسيط لإدارة الاموال العامة في دائرة رسمية ,, وفي نهاية المطاف , ستجد ان البلدية تجأر إلى ربها وتشتكي اليه , بأنها لا تجد رواتب لموظفيها , وأنها ظُلمت من الحكومة بعدم دعمها بمبالغ اضافية لتغطية التكاليف التي تتورط بها .

في وقت , لا يجد عامة الشعب ( مروحة ) كهربائية ثمنها في السوق لا يتعدى 10 دنانير , ليبرد على اطفاله في الحر , عدا عن ثمن وقود لتدفئة ليدفع عن أطفاله برد الشتاء, وان وجدت المروحة المعهودة , فتكاليف الطاقة له بالمرصاد ستقضي عليه وعلى أسرته كاملة.

المواطن له حق في المال العام كحق هؤلاء الموظفين المخصوصين لا ينقص عنهم شيئا , إلا أنّ حكومتنا الموقرة , رأت غير ذلك , واستأثرت وسمحت باستئثار موظفين مخصوصين لرفاهية اقتصادية مطلقة وضمنت ذلك لأسرهم , على حساب هذا المواطن وجيبه , واكتفائه بأقل من حده الأدنى في الكفاية الاقتصادية .

هذه نتائج الابتعاد عن العمق التشريعي للأردن , وتجنب ضوابطه العامة في المال العام وغيره , وهي نتائج متوقعة غير متفاجئين بها , يقول الله تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) , والظاهر ان حكومتنا الموقرة لا ترى (ذكر الرحمن) إلا من خلال ابتهالات يتم بثها من مآذن المساجد قبل الآذان , أو من خلال بعض الأدعية على التلفاز بعد مناسبات معينة .

ولا تعرف أن ذكر الرحمن هو تفعيل ضوابط الرحمن في التشريع , ومنه المال العام , ومن لا يعرف للمال العام ضوابط شرعية أو قانونية سموها ما شئتم , فإن معيشته ستكون ( ضنكاً ) , أي سوداء حالكة لا رحمة فيها ولا كفاية فيها , فهل يوجد أضنك من الحالة الاقتصادية التي يعاني منها المواطن اليوم ..؟!

* هل التشريع الاقتصادي الاسلامي يحرم المسؤول من ضمانات اداء واجباته بأمانة واقتدار من متطلبات عيش وطمأنينة فيها ؟!

التشريع الاقتصادي الاسلامي , كفل للمسؤول وللموظف العام , حق كفايته التي تغنيه عن سؤال غيره , وضمن له بأن يؤدي واجباته على أكفأ وجه ممكن , لا بل ضمن له الاستقرار الاسري , والاقتصادي , وكفايته مؤونة السكن الذي يؤويه ,ويعينه على أداء مهامه , وزاد على ذلك مواصلاته .

عن المستورد بن شداد الفهري – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً) ، قال أبو بكر: أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَن اتخذ غير ذلك فهو غال، أو سارق) .

وهنا كما نلاحظ أن التشريع الاقتصادي الاسلامي , ضمن للعامل أو الموظف العام المسؤول عن ادارة أمر عام في الدولة أمور كفايته العامة . لا بل زاد على ذلك مواصلاته , ففي سنن الإمام أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مَن ولى للناس عملاً , وليس له منزل فليتخذ منزلاً, أو ليس له زوجة فليتزوج, أو ليس له خادم فليتخذ خادماً, أو ليس له دابة فليتخذ دابة , ومن أصاب شيئاً غير ذلك فهو غال(.

والسؤال الذي يتبادر للذهن , أن الحكومة الاردنية فعلت كل ذلك مع موظفيها العمومين من كبار الموظفين , فلماذا نأخذ علبها أنها تهدر المال العام في هذا الأمر ؟! وهو أمر منصوص عليه في التشريع الاقتصادي الاسلامي ..؟!

الأمر بالرجوع الى ما سبق من قيود على كيفية ادارة المال العام و ومقدار التسلط عليه , نجد انه قيدان :
الاول : كفاية الموظف العام ومن يعول من اسرته, يكفيه المؤونة بدون اسراف ولا تقتير .
الثاني : مقترن بما هو معروف عرفا بين الناس ان هذا يكفيه المؤونة ويكفيه الحاجة , بدون زيادة مفرطة في رفاهية له ولأسرته .

لذلك , جاء تعليق مَن بيّن هذا التشريع الاقتصادي الاسلامي لمقدار تسلط الموظف العام على المال العام بأن راتبه يسمح له أن يتخذ منزلاً كراءاً أي ( أجرةَ ) أو تمليكاً , وهو منزل متعارف عليه بدون غلو في الاسراف العام , ويستطيع من راتبه الزواج , ويكفيه أن يشتري له – دابةً– في ذلك الزمان أو ما يعرف اليوم بوسيلة مواصلات تعينه على أداء مهامه , بمعنى آخر , أن راتبه مرتبط بتوفير هذه المستلزمات له .

وزادوا عليه بأن هذا ينصرف الى تنقلات هذا الموظف العام أو المسؤول العام, بنقله الى أي منطقة أخرى غير منطقة سكناه .

وهذا ما يظهر من تصنيف البيهقي لهذا الحديث الشريف تحت باب : (باب ما يكون للوالي الأعظم ووالي الاقليم من مال الله) .

وهذه هي الكفاية العامة للعامل العام المتوكل بالمال العام , ان كان هو بحاجة ذلك , ومَن تعدى هذه الكفاية بالإسراف , مثل استغلال هذا المال العام في شأن المسكن بأن يتخذ قصراً أو فيلا أو غير هذا , وأن يستهلك من الكهرباء والطاقة والماء مجاناً , فوق كفاية حاجته, أو أن يشتري دابة أو سيارةً فارهة فوق المتوسط العام المتعارف عليه, وهذا كله من خلال راتبه المخصص, أو ما خُصص له من نفقة عامة تعينه على مهامه , وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفس الحديث الشريف بأنه ( سارق ) أو ( غالّ) , والغلول هي الخيانة في الأمانة وما توكل فيه من المال العام .

وهنا أجد لزاماً علي أن اطرح مسألة ( الحد الأدنى من الأجور ) في التشريع الاقتصادي الاسلامي , ولكن سيكون في الجزء الثاني ان شاء الله تعالى .

الحكومة الأردنية كفلت لطبقة مخصوصة من الموظفين العموميين غناهم واغراقهم في رفاهية مبالغ فيها , بينما أبقت غيرهم من الموظفين يتسولون كسرة الخبز على قارعة الطريق , وكله بحجة ضبط النفقات العامة , بينما التشريع الاقتصادي الاسلامي , ربط كفاية الموظف أي كانت طبقته ومسؤوليته برابط ( حد كفايته ) لا بحد ( كفافه ) وبينهما بون شاسع , أي بحد يكفيه سؤل غيره , او الحاجة الى غيره , وهنا تبرز مسألة ربط الرواتب العامة بمسألة التضخم , وما ترتبط بها من حاجات وارتفاع كلف المعيشة .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض تحدثه عن المال العام وحق الموظف منه : ( إن حصول الكفاية أمر لا بد منه) بينما زاد الامر توضيحا الامام الماوردي – وهو بصدد بيان أسس احتساب رواتب موظفي الدولة – بقوله : ( فيقدر كفايته في نفقته وكسوته لعامه كله، فيكون هذا المقدار في عطائه، ثم تعرض حاله في كل عام، فإن زادت رواتبه الماسة زيد له في العطاء، وإن نقصت رواتبه نقص له في العطاء) .

وهذا عين ما اتجه له الفقهاء المعاصرون إلى وجوب ارتباط رواتب العمال والموظفين بحد الكفاية لا بحد الكفاف ، يقول الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله: (من المقرر أن أجور الأعمال تقدر بقيمة العمل، وبما يكفي العامل وأهله بالمعروف، من غير تقتير ولا إسراف، وأن ذلك يختلف باختلاف الأعمال والأشخاص والأحوال والأعراف) . ويقول الدكتور يوسف كمال محمد: (إن الإسلام ابتداء يحقق لكل فرد من المجتمع حد الكفاية لا حد الكفاف، ومن ضمن هؤلاء كل عامل لا يجد فرصة عمل، وتحدث الفقهاء كثيرا في ذلك، واعتبروا من مصارف الزكاة أن يمد العامل بأداة الحرفة ) .

فهل أمدت الحكومة الأردنية الموظف والعامل بحد كفايته لا بحد كفافه ؟ هل ربطت الرواتب العامة بمقدار التضخم المتوقع لكل عام ؟! هل أنقصت من رواتب عليه القوم الذين يرفلون برفاهية مغرقة ؟!

* الهدايا والاكراميات والحظوة المالية للمسؤول العام عن المال العام , والموظف الرسمي في الدولة , للخزينة العامة لا لملكه الخاص , أي كان مصدرها غير راتبه وما خُصص له :

ما ان يستلم مسؤول أردني مسؤوليته العامة , حتى تجد ان الهدايا أُغرق بها إغراقاً , وتأتيه من حيث لا يحتسب , من هنا ساعة , ومن هناك مؤونة بيته شعبيا مثل الجبن وزيت الزيتون وغيره , وبينهما يقع الاكرام بالعزائم المكلفة , فضلاً عن الاستعراضات غير المبررة عند البعض بتلبية الاستجابة لإكرام فلان وعلان من القوم , ويعتبرها محبة يستعرض بها أمام الشعب , ويصل الأمر الى مماحكة فلان وعلان من المسؤولين , وغيره الكثير .

ولكن ان سألنا هذا المسؤول , لو جلست في بيت أمك وأبيك , بدون وزارة ولا منصب ولا جاه , هل ينظر إليك أحد ؟! هل يكرمك أحد بهدايا فيها إغراق مالي لك ولأسرتك ؟!

وهذا هو تماما ما أفادنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند تقريره تشريع رباني اقتصادي , من فوق سبع سموات لهذه الأمة , وهو أن الهدايا للموظف العام لا تكون له , بل تذهب الى بيت مال المسلمين ان قبلها , بالعرف الحديث للخزينة العامة , وإن اخفاها واعتبرها ملكه الخاص , فستشتعل عليه في نار جهنم يوم القيامة , وان تم ضبطها دنيويا ,يتم معاقبته بمصادرتها أولاً , وكفّ يده عن وظيفته العامة ثانيا , ومحاسبته ثالثا .

عن أبى حُمَيْد الساعدى رضي الله عنه قال: (استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا على صدقات بنى سليم يدعى ابن اللُّتْبِيَّة, فلما جاء حاسبه, قال: هذا مالكم, وهذا هدية, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلَّا جلستَ في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كُنْتَ صادقا؟! ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله, فيأتي فيقول: هذا مالكم, وهذا هدية أهديت لي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟! والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقِيَ الله يحمله يوم القيامة, فلَأعرِفَنَّ أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رُغاء –صوت-، أو بقرة لها خُوار, أو شاة تيعر –تصيح, – ثم رفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه يقول: اللهم هل بلغت) رواه البخاري) . وفي رواية مسلم قال عروة ): فقلتُ لأبي حُميدٍ الساعديّ: أسمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: مِن فيه إلى أُذُني) .

قال ابن بطال: “وهذا الحديث يدل أن ما أُهْدِىَ إلى العامل فى عمالته والأمير فى إمارته شكراً لمعروف صنعه أو تحبباً إليه أنه فى ذلك كله كأحد المسلمين لا فضل له عليهم فيه، لأنه بولايته عليهم نال ذلك، فإن استأثر به فهو سُحْت (حرام)”..

وقال النووي: “وفي هذا الحديث بيان أن هدايا العمال حرام وغلول لأنه خان في ولايته وأمانته، ولهذا ذكر في الحديث في عقوبته وحمله ما أهدي إليه يوم القيامة كما ذكر مثله في الغال، وقد بين صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث السبب في تحريم الهدية عليه وأنها بسبب الولاية بخلاف الهدية لغير العامل فإنها مستحبة”.

وقال الخطابي: “في هذا بيان أن هدايا العمال سُحْت، وأنه ليس سبيلها سبيل سائر الهدايا المباحة، وإنما يهدى إليه للمحاباة، وليخفف عن المُهْدِي، ويسوغ له بعض الواجب عليه، وهو خيانة، وبخس للحق الواجب عليه استيفاؤه لأهله”. وقال الشوكاني: “وَالظَّاهر أن الهدايا التي تُهْدَى لِلْقُضاة ونحْوِهمْ هي نوع من الرِّشْوة، لأن الْمُهْدِي إذا لم يَكُنْ مُعْتَاداً للإهداء إلى القاضي قبل ولايته لا يُهْدِي إلَيْه إلَّا لِغَرَض..”.

هذه الهدايا تدخل بمفهوم استغلال النفوذ للوظيفة العامة في التشريع الاقتصادي الاسلامي , واستثمار الوظيفة العامة لجلب منافع خاصة , رسول الله صلى الله عليه وسلم وضّح التشريع وقواعده ببواطن كثيرة , ولم يترك لأي موظف عام عذراً بعدم العلم بهذا التشريع الاقتصادي الاسلامي وتنظيمه للوظيفة العامة , فعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استعملناه علي عمل فرزقناه رزقا, فما أخذ بعد ذلك فهو غُلول) رواه أبو داود وصححه الألباني. قال الصنعاني: “(من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً) على عمالته، (فما أخذه بعد ذلك فهو غلول) أخذ للشيء بغير حله فيكون حراماً بل كبيرة، ففيه أن لا يحل للعامل إلا ما أعطاه من استعمله، فلا يأخذ شيئاً مما قبضه غير ذلك، وأما الهدية من الذين يقبض منهم فقد عُلمت حرمتها من أحاديث وأنها من الغلول”. وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هدايا العمال غُلول) رواه أحمد وصححه الألباني) .

فكل ما ورد هو تخوّض بمال المسلمين بدون وجه حق , ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيّن مصير من يتخوّض بمال الله تعالى بدون وجه حق آخرويا بعد أن أوضح التعامل معه دنيويا , عن خولة الأنصارية قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة) – رواه البخاري –

وفي رواية: (إن هذا المال خضرة حلوة، من أصابه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض فيما شاءت نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار) – رواه الترمذي –

وجه الدلالة من الحديث: المراد بالمال هنا المال العام؛ لأنه يسمى مال الله وتوضح ذلك رواية الترمذي من مال الله ورسوله ؛ إذ هذه الإضافة خاصة بالمال العام الذي لا يملكه فرد بعينه، والمراد بالتخوض : أخذه وتملكه والتصرف فيه تصرف المالكين، ففي الحديث الوعيد الشديد للمتخوضين في المال العام، وأولى من يتوجه له هذا الوعيد ولي الأمر الذي له صلاحية الاقتراب من المال العام أي كان مسماه الوظيفي أو درجته ؛ إذ الغالب أنه لا يقدر على التخوض في المال العام إلا هو، أو من له به صلة، فلو كان المال ماله لما توجه إليه الوعيد، ولجاز له التصرف فيه، كما يتصرف المالك في ملكه، فلما كان ممنوعاً من ذلك دل على أنه لا يملكه.

أكتفي الى هنا , واعود بالجزء الثاني ان شاء الله تعالى ان بقي في العمر بقية .