قراءة جديدة بقلم الإعلامي العراقي الدكتور حميد عبد الله “داودية عجنته الكسارة وكبرت به الوزارة!”

6 يونيو 2022
قراءة جديدة بقلم الإعلامي العراقي الدكتور حميد عبد الله “داودية عجنته الكسارة وكبرت به الوزارة!”

د. حميد عبدالله

استحضر شقاوة الصبي المشاكس، واختزل محطات العمر التي لا تشبه بعضها، واطل من شرفات المناصب الرفيعة التي شغلها وزيرا وسفيرا ومقربا من سيد الأردن وقائده جلالة الملك الحسين رحمه الله، مزج كل ذلك، وصنع منه خلطة نادرة يصعب على غيره معرفة سرها ومكوناتها !

اخشوشنت يداه وعوده مازال غضا، أخضعته الحياة لأصعب امتحاناتها وكانت نتيجته في كل مرة النجاح بامتياز.

لو مرت الأيام العصيبة التي عاشها محمد داودية على غيره ربما لصنعت منه شقيا متسكعا، أو صعلوكا مشردا تتبرأ منه الفضائل وتسكنه الرذائل!

الفتى الذي فتح عينيه على يتم مبكر، وعوز موجع، امسك ببوصلة وضعته على أكثر الطرق وعورة، لكنها أبعدته تماما عن المتاهة والضياع.

ليس بإمكاني أن أتخيل طفلا (يلاطم بكفه الرقيقة الطرية المخارز المتلاحقة) وحين يتحسس جسده في لحظة استرخاء يكتشف أن تلك المخارز (قد غارت عميقا في جسده وروحه) فيبكي بصمت لكنه يستقوي على ذلك بإرادة صلبة تستوطن جسده الذي لما يزل طريا !

في أول معرفتي به اكتشفت من اللحظات الأولى أن في هذا الأردني (النشمي) خصالا عراقية لا تخطئها الحواس، وحين قرأت كتابه (من الكسارة إلى الوزارة) فككت تلك الحزورة، فقد عرفت انه ولد في بلدة الاجفور التي تقع على الحدود العراقية الأردنية، وأن واحدة من مرضعاته الثلاث عراقية، ثم اكتشفت في الصفحات اللاحقة من الكتاب، أن شابة عراقية حسناء أطلت برأسها من نافذة السيارة ذات يوم وطلبت منه ماء فأبهرته وسحرته وهي تخاطبه بغنج (عيني ممكن مي بارد) !

الشقاء المبكر امتحان للصبر والاحتمال والمطاولة، لكنه، وهو إذ يطحن أصحابه تحت سرفاته وجنازيره القاسية، يزرع في رؤوسهم شيئا من الحكمة !

لقد ترسخ في داخلي هذا الاستنتاج وأنا أقرأ مقولة لمحمد داودية وجدتها تفيض بهذه الدلالة بنحو جلي (النجاة الفردية في مجتمع يغرق، هي غرق في العار) ولو نسب هذا القول لفيلسوف إغريقي لما كان هناك من يشك فيه أو يشكك!

من يشغلون كراسي السلطة صنفان، صنف أصغر من الكرسي فيضيع فيه، وصنف أكبر من الكرسي فيزهد فيه، وداودية من الصنف الثاني!

يتحاشى الوزراء والأمراء والسفراء ومن على شاكلتهم، الاستدارة إلى الوراء لاستذكار ماضيهم، لاعتقادهم أن بعض صفحات هذا الماضي تثلم أبهة المنصب، وتأكل من هيبته، و فاتهم أن بعض الأنبياء كانوا معوزين ومشردين ورعاة غنم، وبعض الزعماء مارسوا مهناً متواضعة، فرئيس الاتحاد السوفيتي السابق نيكيتا خروشوف بدأ حياته راعيا للغنم قبل أن يتحول إلى عامل رث في معامل الحديد والصلب. ورجب طيب أردوغان كان بائعا للكعك. وجوزيف ستالين فتح عينيه على أب يرتق الأحذية. وهتلر عاش شطرا من حياته معتمدا على معونة تقدمها الحكومة للأيتام.

بدلا من ان يتجاهل ماضيه المليء بقصص العذاب والقسوة قدم لنا داودية صورا تحفز على التحدي، وعلمنا حقيقة لا خلاف عليها ولا اختلاف، وهي أن ظلام العالم كله لن يطفئ شمعة واحدة، وفي كل محطة معتمة كان داودية يوقد شمعة للنجاح بإصرار غير مألوف ولا معروف!

بائع الصحف يصبح رئيسا للتحرير، وعامل المطعم يصبح وزيرا لثلاث وزارات، والمستشار العاطفي للفتيات يصبح سفيرا لبلاده في عدد من عواصم العالم، وعامل الكسارة يصبح كاتبا مرموقا يستدعي قلمه مفردات اللغة العربية فتهرع طائعة للساجع اللامع، والمعارض للنظام الملكي يصبح ركنا ركينا للنظام الذي كان يناصبه العداء!

خلال قراءتي المتمعنة لمذكراته لم أجد بين ثناياها تفخيما لمنجزه الوظيفي، أو نفخا بسيرته، وكل ما تحدث به كان توصيفا لما صار ودار، بل لم أجد سطرا واحد عن نجاحاته كوزير او ألمعيته كسفير، كان يروي ويترك لنا الحكم والقرار!

بعد الانتهاء من قراءة الصفحة 275 من مذكرات داودية عرفت السبب وراء اكتظاظ القاعة الكبرى في المركز الثقافي الملكي بالحضور أثناء توقيع الكتاب، حضور فاق التوقع، وشكل حالة استثناية ولافتة لمناسبة ما كانت تشبه مثيلاتها وسابقاتها، السبب أن معظم الحاضرين يعرفون ما سيدونه داودية، ويدركون مستوى الصدق في ما يقول ويكتب.

في جملة أخيرة اختصر فيها الجُمل أقول إن الكسارة عجنت داودية وصنعت منه أردنيا نشميا وأنسانا استثنائيا، أما الوزارة والسفارة فإنهما كبرتا بالرجل ولم يكبر بهما.