سأروي لكم هذه القصة…!!

3 يونيو 2022
 سأروي لكم هذه القصة…!!

المحامي بشير المومني

عندما كنت طفلا كان الاهل يقطنون أطاريف مدينة العسكر فيما كان يعرف في بداية الثمانينات بالزرقاء الجديدة .. كان هنالك مظهران يميزان المشهد لازالا عالقين في الذاكرة الزمكانية أي ذاكرة الاحساس والوجدان والفكرة ..

المشهد الاول كان للعسكر .. فلقد كنا بجوار منطقة عسكرية وكانت خدمة العلم مفروضة على الشباب وكنا نشاهد المكلفين وهم يجوبون المنطقة وقد لوحتهم الشمس ويمشون في طوابير ولا زلت اذكر ذلك الوكيل المدرب الذي كان يهرول الى جانب الشباب وهم يرددون اهازيج الجيش والحماسة وكنا كأطفال ننتظر مجيئهم بفارغ الصبر لنستمتع بالركض الى جانبهم ولنؤدي التحية العسكرية وفي بعض احيان القيظ واللهيب كان المدرب يتوقف الى جانب منازلنا ويطلب الماء .. لا تزال حبات العرق والسواعد السمر عالقة في الذاكرة لكن الأهم كانت تلك الحماسة واهازيج الفخر بالملك وبطولات الوغى اذا ما زغرد البارود وهذا المشهد انتج لاحقا منظومة الانتماء لفكرة البيروقراط وانضباطيته وحتى من تخرج من مدرسة الجيش بعد سنتي خدمة العلم فيتوجه الى القطاع الخاص كان يحمل مجموعة من القيم الجمعية التي يتعلمها في مدرسة الجيش الاعرق في الدولة او بمعنى ادق التي صنعت الدولة وكان ينقل تجربته وشخصيته التي شكل بواكيرها الجيش الى الحياة المدنية او على الاقل طريقة من طرق التفكير ولينقل ايضا لمحيطه ان الاردن ليست عمان فقط ولتتشكل مضامين معرفية ناشئة عن حالة اثراء نتيجة الاحتكاك الذي تمتع به كتجربة داخل مؤسسة جمعت ابناء الوطن على مختلف مشاربهم وثقافاتهم لتضخ فيهم رسالة جمعية وثقافة انتجها الشعار والقايش ..

المشهد الثاني كان متصلا بالرعاة .. فالزرقاء كان يحيطها كوكبة من اهل البداوة وهم كما الجيش تماما مدرسة تستحق التأمل وفي أحد أيام الربيع كان احد الرعاة يقود شلية غنم الى جوار منزلنا وفجأة بدأت الخراف تتساقط واحدة تلو الاخرى لتلفظ امام ناظريه انفاسها الأخيرة .. هل أكلت نبتة معينة أم كان السبب غير ذلك لا أدري لكن لا زال ذلك المشهد عالقا وكأني أراه .. راع يبدأ بالركض نحو اغنامه ويحاول انعاشها وهي تتساقط وتبدأ بالتنفس بطريقة غريبة ويبدأ هو بالمناداة علينا طلبا للنجدة .. لم نفهم ما يريده لكنه كان يصيح ويزمجر بالويلاه وينتقل من خروف لآخر ويحاول أن يفتح فمه ويضغط على بطنه .. لا ادري ما الذي كان يفعله بالضبط لكنه كان يحاول أن يفعل شيئا لعله يدرك ما يمكن إنقاذه .. في النهاية سحب شبريته التي لمعت تحت الشمس وسمعناه يقول ( باسم الله .. الله اكبر .. ) وبدأ بذبح الخراف قبل ان تموت ثم نهض و وجهه مليء بالألم ويكأنه قد ذبح افلاذ اكباده فنحن كنا نلاحظ ان هنالك علاقة عجيبة تربطه بالقطيع انتجت مشهدا عاطفيا واكاد اجزم ان لكل خاروف لدى الراعي اسما او وصفا وحتى انه يعرف طباعها الشخصية ولقد عز عليه ذبحها بيده .. اتجهنا نحوه فطلب منا كما فهمنا منه ( فزعة قرايبه ) في المنطقة الغربية وبالفعل ركضنا كأطفال لعدة كيلومترات حتى صادفنا احد العرب وابلغناه بنبأ الراعي وما هي إلا دقائق حتى كان العربان يحوفون الطيف والزمان ولينهض كل منهم بمهمة محددة ويكأنما هم مدربون على الأزمات فكل شخص منهم كان يعرف ما عليه من واجب .. واذكر جيدا ان الراعي وعد اطفال الحي بمكافأة ( شلنين ) ولا أدري حتى الآن لماذا لم تكن ( بريزة ) لكنه في احد أيام الصباح وبعد شقة الضوء طرق ابواب منازلنا ليوفي بعهده ووعده وليعطي كل طفل منا ( شلنين ) .. تعلمنا منه الوفاء وتعلمنا أن الراعي قد يضطر أحيانا لاتخاذ قرارات مؤلمة تصل حد التضحية ببعض او حتى نصف القطيع لكن المهم أنه يحقق مصلحة العامة ولو بقرارات مؤلمة لكن الاهم من ذلك أن يده لم ترتجف ولم يتردد في اتخاذ القرار ..