نضال العضايلة
كاتب صحفي، محرر في وطنا اليوم
قبل خمسين عاماً كان هناك رجل يدعى أبو المساكين، بلمحة بصر نظر المساكين الى السماء فوجدوا روحه ترفرف، في عليائها بعد ان اختطفه المنون، رجل كان يقال عنه انه كان لا يملك سوى الملاليم رغم انه رئيس حكومة، لا بل كان مديوناً.
قبل خمسون عاماً دخل القائد الفلسطينى صلاح خلف «أبو إياد»، الرجل الثانى فى قيادة حركة فتح الفلسطينية، منزل رجل الأعمال الفلسطينى منيب المصرى، المقيم فى عمان، وكان رئيس الوزراء الأردنى وصفى التل موجودا، وفور أن رآه «أبو إياد» هاجمه بوابل من الشتائم: «يا سفاح، يا قاتل»، وحسب كتاب «فلسطينى بلا هوية» الذى يروى فيه «أبو إياد» سيرته، فإن «التل» لم ينطق بكلمة واحدة ردا على الهجوم فى اللقاء الذى تم أول شهر يوليو 1971، وترك أبو إياد يكيل الهجوم، ولما انتهى منه نظر «التل» إليه، قائلا: «دعنا نعقد ما اتفقت أنت والملك عليه، وهو إخراج السلاح من عمان»، أى «سلاح المقاتلين الفلسطينيين الموجودين فى الأردن لشن عمليات ضد إسرائيل»، فرد أبو إياد متحمسًا: «نعم سنخرج لأننا شرفاء ولا نريد قتل الشعب أو اندلاع حرب أهلية»، فنهض هانى الحسن، عضو المجلس الثورى لحركة فتح، وكان حاضرًا اللقاء، واستأذن من أبو إياد فى الحديث معه على انفراد، وفى حديثه قال له: «لماذا تقول هذا الكلام؟ وكيف نخرج من عمان؟ وإذا خرجنا فلماذا نخرج إلى جرش؟ إذا خرجنا فلنخرج إلى «إربد» حيث نضع قواتنا فتتصل بالحدود السورية، وكثير من القوات قد خرج إلى سورية، وأضاف الحسن فيما يشبه الرجاء: «يا أبا إياد ماذا يعود علينا من تجميع القوات وعزلها فى جرش؟».
خرج المقاتلون الفلسطينيون من عمان، لكن فور الخروج طوق الجيش الأردنى جبال جرش فسقطت عسكريا وجرت مذبحة جديدة للقوات الفلسطينية، فكتم «أبو إياد» أحزانه، لكنه قرر الانتقام من العاهل الأردنى الملك حسين وأعوانه، وجاءت البداية فى القاهرة بعد ظهر «مثل هذا اليوم 28 نوفمبر 1971»، ضد ما يصفه «أبو إياد» بـ«رمز الخيانة الفلسطينية».
كانت القاهرة تشهد اجتماع دورة «مجلس الدفاع العربى»، التابع لجامعة الدول العربية، وحضره «التل»، وفى فندق «شيراتون» المطل على «النيل» أفرغ «عزت أحمد رباح» مشط مسدسه على «التل» حيث يقيم، وفى نفس الوقت تم إطلاق النار عليه من بهو الفندق ليتوفى بعد ثوانٍ، وتم القبض على منفذى الحادث وعددهم أربعة، ومن بيروت تبنت «منظمة أيلول الأسود» الحادث، وهى المنظمة التى تم تشكيلها بعد القتال بين القوات الفلسطينية والجيش الأردنى فى المدن الأردنية المشهور بـ«مذابح أيلول الأسود»، وكان وقفه هو آخر ما فعله جمال عبدالناصر قبل وفاته بساعات يوم «28 سبتمبر 1970».
قاد أبو إياد منظمة أيلول الأسود، وتكونت من الفصائل الفلسطينية، للقيام بعمليات نوعية ضد إسرائيل والثأر من المسؤولين عن المذابح الفلسطينية فى الأردن، ويكشف «أبو إياد» عن أن عدة مشاريع سابقة تم إعدادها لاغتيال «التل» ليتم تنفيذها فى عمان أو القاهرة، لكنها «نبذت فى اللحظات الأخيرة»، وأن الذين نفذوا عملية الاغتيال انتظروا فى القاهرة يومين قبل التنفيذ، ويؤكد أن أحدهم وهو «مشير خليفة» صاح فور أن أردى «التل» قتيلاً وأثناء القبض عليه: «أخيرا نفذتها، أشعر برضا، لقد أرقت دم التل».
شنت الصحف المصرية هجوما حادا على منظمة التحرير الفلسطينية، وفتح موسى صبرى النار ضد منظمة التحرير الفلسطينية على صفحات جريدة الأخبار، وذهب وفد من اتحاد المرأة الفلسطينية لزيارة جيهان السادات عبرت فيه عن أسفها من الحوادث الدامية.
فى كتابه «رسائل المحب إلى الأحب» الذى يحتوى على رسائل أبو إياد الشخصية إلى زوجته وأبنائه، وأخرجته أسرته عام 2002 يذكر أن السيدة جيهان كان لها رأى مخالف عن رأى زوجها السادات الذى هاجم منظمة التحرير بضراوة، حيث قالت له: «ألم تكن مثل الشباب الفدائى الفلسطينى فى شبابك؟»، فهدأ السادات وتغيرت لغة الصحافة المصرية من النقيض إلى النقيض فى تعاملها مع الموضوع، بل زاد الأمر إلى حد قرار السادات بقطع العلاقات مع الأردن فى إبريل 1972 أثناء انعقاد الدورة العاشرة الاستثنائية للمجلس الوطنى الفلسطينى، وبناء عليه قدم حسين الشافعى، نائب السادات، استقالته لعدم مشاورته فى الأمر، وسمح السادات لـ«أبو إياد» أن يزور المتهمين الفلسطينيين فى سجن القلعة، وتنكر أثناء الزيارة فى ثياب «شيخ كويتى».
في 29 فبراير 1972 قضت محكمة أمن الدولة بإطلاق سراحهم، وقضوا فى القاهرة 12 شهرا، ثم عادوا للالتحاق سرا بقوات المقاومة الفلسطينية.
مع اغتيال الرئيس الشهيد يقف التاريخ، ولكن اي تاريخ هذا تاريخهم، لقد تعلم اطفالنا منذ صغرهم ان تاريخهم اسود، كما هو ايلولهم، وكما هو حقدهم الاسود، اما تاريخك يا وصفي فهو تاريخ الشرف والكرامة، تارخ كتبته بدمك الزكي الطاهر، نعم يا سيدي الشهيد تشرينهم اسود وتشرينك ابيض، نعم يا سيد شهداء الاردن لقد مت واقفاً، بينما هم عاشوا منبطحين من الرعب والخوف.
شموخك يا وصفي اقلقهم، قتلهم وماتوا وهم احياء، رجولتك كانت تؤرقهم، فأبوا ان يناموا الا وقد اغتالوك، لانهم خافوا من رجولتك، كبرياؤك، فنم يا سيدي قرير العين، فستبقى انت الحي وهم الاموات.