‏ذات ربيع في بلد ينشر الرعب في العالم للمرة الثانية

12 مارس 2022
‏ذات ربيع في بلد ينشر الرعب في العالم للمرة الثانية

الدكتور عاصم منصور

كلما شاهدت نشرات الأخبار وهي تتابع تطورات الحرب الروسية- الاوكرانية، وتلاحق القوات المتوغلة في جغرافيا هذا البلد، والمذيعون يذكرون البلدات التي تجتاحها القوات بنطق محرف وحيادية باردة تعود بي الذاكرة الى رحلتي الى هذا البلد الجميل ذات ربيع وفي وقت حرج قد لا يختلف في خطورته عن الوقت الحاضر، وكنت قد وصفت هذه الرحلة سابقا في خاطرة بمناسبة مرور ٣٥ عاما على حدوثها:

للربيع في تلك البلاد نكهة خاصة؛ فهو يجيء لينفض عنها كآبة شتاء طويل، وتكون الأرض متشوقة للشمس لتضع عنها معطفها الجليدي، وترتدي الربيع متبرجة تخطف الأبصار وتأسر القلوب.
لم يكن ذاك اليوم من ربيع العام 1986 ليشذ عن أمثاله؛ شمس ساطعة، وسماء صافية تتخللها بضع غيمات متفرقة. أما الأرض، فقد ارتدت الأخضر الذي لا يكاد ينحسر إلا عن نهر أو بحيرة آسرة.
كان القطار يسير بنا على غير عجلة من أمره، قاطعاً مسافات من أراضي أوكرانيا باتجاه موسكو، لا يقطع صوت عجلاته الرتيب، إلا موسيقى فرحة تنبعث من سماعات العربة إيذانا باقتراب عيد العمال.
أجواء العيد بدت واضحة على محيا البلدات والمحطات التي مررنا بها؛ فالأعلام الحمراء تتزاحم مع الشعارات التي تمجد العمل والعمال، ووجوه الناس تعكس هذا الجو الاحتفالي.
لم يكن أي منا يدرك حجم المأساة المسكوت عنها، ولا الموت المتخفي بين نسمات وأشعة شمس ذاك اليوم. فغير بعيد عنا، كان آلاف الجنود والمتطوعين يحاولون، بأدوات بدائية، طمس آثار الكارثة التي حاول النظام القائم إخفاءها عن مواطنيه والعالم. لكن كيف يمكنه إخفاء كارثة بهذا الحجم، جثمت على أجزاء واسعة من نصف الكرة الشمالي؟!
إنها تشرنوبل، تلك البلدة الوادعة التي يعني الجزء الأول من اسمها “السواد”، والتي لم يسمع بها أحد من قبل لكنها قفزت فجأة لتتصدر الأخبار، مصدرا للرعب اجتاح العالم كأول كارثة لمفاعل نووي سلمي.

لقد طوى الموت مدينة “بريبيات” وأصبحت مدينة أشباح عادت لتستوطنها الجوارح والكواسر، وقد تم دفنها تحت آلاف الأطنان من الإسمنت والطمم لكن هذه لم تستطع أن تدفن حقيقة القوة التدميرية التي يحملها الإنسان لنفسه، وأن فساد الدول كالسوس في السن ينخرها من أساسها ولا يلبث ان يقوضها رغم مظاهر القوة الزائفة.