كتب تحسين التل
تزوجها الشهيد وصفي التل بعد أن تجاوز الثلاثين من عمره، وذلك في (18- 11- 1950)، وكانت تكبره بعدة سنوات عندما عقد قرانه عليها في بيت الوزير حمد الفرحان؛ زميله وصديقه خلال مرحلة الشباب والدراسة في السلط..
يؤكد كل من عاصر المرحومة سعدية الجابري على أنها كانت امرأة قوية، وغير عادية، لها مواقفها الصلبة، وكان الشهيد وصفي التل يحبها كثيراً، بحيث أنه رفض العروض التي انهالت عليه من كبار رجالات العشيرة؛ لتزويجه الفتاة التي يختارها من بنات أقاربه، أو من بنات العشائر الأردنية في طول البلاد وعرضها، إلا أنه رفض أن يكسر خاطر زوجته، أو أن يهينها بزوجة ثانية، وظل على العهد معها الى أن استشهد في القاهرة، وكأن الله (تعالى) لا يريد لأحد أن يحمل اسمه، ويبقى إبناً وشقيقاً وأباً لكل أبناء الوطن من شماله الى جنوبه ومن شرقه الى غربه.
كلفها الملك الراحل الحسين بن طلال بإدارة متحف الأردن، وكان مقره في المدرج الروماني بوسط البلد، فعملت على جمع التراث الأردني، والأثواب التقليدية للمرأة الأردنية في إربد، والسلط، ومادبا، والكرك، ومعان، وبقية المدن الأردنية، في الريف والبادية، واستطاعت رحمها الله أن تعيد للفكرة مصداقيتها، وألقها وجوهرها الثمين.
تتحدث زوجة الأمير زيد بن شاكر السيدة نوزت الساطي (أم شاكر) عن المرحومة سعدية الجابري، فقالت:
استطاعت سعدية أن تجمع الكثير من الأثواب الأردنية، وذلك لتنفيذ أفكار الشهيد وصفي التل في ترسيخ الهوية الوطنية من خلال عدة أوجه، تتعلق بجمع التراث الأردني القديم، والمحافظة عليه ضمن متحف أردني يعكس الصورة المشرقة للتراث، والأزياء والتقاليد المتبعة في الأردن.
تأسس المتحف الشعبي عام (1971)، وسمي باسم: متحف سعدية التل، لأنها أشرفت شخصياً على تأسيسه، ورعايته، ووفرت له العناية الكاملة من قبل الحكومة، والديوان الملكي، وقسمته الى أربع صالات، تحت المدرج الروماني، بحيث تستوعب كل صالة مجموعة من الأزياء الشعبية، وما توفر من تراث قديم استخدمه الآباء والأجداد، وأزياء نسائية استخدمتها نساء وبنات الوطن بكل تفاصيله.
تحدثت المرحومة سعدية عن عشق وصفي التل للأولاد، وكانت تقول له إذا أردت أن تتزوج فعليك بالزواج لتكون لك ذرية، تقول كان يرفض رفضاً مطلقاً ويقول رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى: كل أبناء الأردن أولادي، أنا أكثركم نسلاً، والله ما حطمت قلبك وأنا على قيد الحياة.
تقول سعدية عن وصفي: كان رجلاً استثنائياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، زوجاً مخلصاً، وفياً لأسرته الصغيرة، والكبيرة، لا يميز بين أحد، ولا يتكبر، وكلما جلس الى الفقراء تواضع حتى يشعر المرء أنهم أفضل وأعلى درجة منه، يعشق الوطن حد التقديس، وكان يقول الوطن أولاً وثانياً وثالثاً، والدماء مهما كانت عزيزة فإنها ترخص من أجل الأردن.
تقول سعدية الجابري: كان وصفي يحب النوم على التراب لساعات، وكنا نتركه مستغرقاً لأننا نعلم مدى العلاقة التي تربطه بتراب الأردن، وعندما كان يصحو يقول: هكذا يتوحد الجسد مع التراب، فيعملا على تكوين حالة من الوحدة، والتجاذب، والتماسك، وعشق الأرض، فإذا عشقنا الأرض، عشقت الأرض الجسد.
أشارت سعدية الجابري الى أن وصفي اشترى جزءً صغيراً من منطقة أم النعاج في الكمالية عام (1951)، وكانت ثلاثة دونمات، تم بناء غرفتين، وصالون، ومنافع، في المرحلة الأولى، وذلك لعدم توفر السيولة الكافية للتوسع في البناء، وأكدت على أن البيت شيد على الصخور بشكل مباشر، ولم يُستعمل الإسمنت في البناء، إنما استخدم (الدبش والصخور والتراب المخلوط بالتبن) على الطريقة السائدة في ذلك الحين، وكان سمك الحائط حوالي (80 سم) بهدف تأمين العزل الكامل، وتلبيسه بالحجر المعاني، واستمر البناء حوالي ستة عشر عاماً متواصلة الى أن أخذ شكله الحالي، وقالت المرحومة سعدية إن الحيوانات المفترسة كانت تحوم حول المنطقة ليلاً.
استخدم الشهيد وصفي التل الصخور، وتشعباتها كممرات للمياه، وما يتوفر من أحواض طبيعية لتصفية المياه على مراحل، وتخزينها في البِئار التي حفرها العمال لتجميع مياه الشرب، وسقاية المزروعات، وكان الشهيد كلما سدد قيمة الأرض عمل على زيادة رقعة الأراضي حتى أصبح لديه حوالي (48) دونماً، باعه إياها المرحوم فهد العبد اللات على حساب (20) ديناراً للدونم الواحد، وظل الشهيد يسدد ثمن الأرض حوالي عشر سنوات الى أن انتهى من تسديد ثمنها من راتبه الشخصي.
وقد أكدت سعدية على أن البيت كان يجتمع فيه كبار رجالات الدولة وعلى رأسهم الراحل الكبير الحسين بن طلال؛ للتشاور وتشكيل الحكومات، وكان الشهيد حريصاً جداً على تجهيز البيت بما يلزم من أجهزة اتصالات حديثة، وإذاعة كاملة مرادفة للإذاعة الأردنية؛ في حال انقطعت الإتصالات بينه وبين بقية أجهزة الدولة، فيعمل على مواصلة البث من بيته الى الشارع الأردني.
زرع الشهيد وصفي التل مئات الأشجار من الزيتون، والحور، والسنديان، واللوزيات، والفاكهة، وكان يقطف الزيتون مع زوجته وينقيه من الشوائب، ويغسله، ويرسله الى المعصرة الحجرية ويشرف على عصره بنفسه، وكان هذا الأمر يشكل بالنسبة له متعة ما بعدها متعة، ويضع الزيت في جرار زجاجية ليتمتع بمنظر الزيت وهو أمامه، وكان إفطاره يعتمد على اللبنة والزيت وما تنتجه الأرض من خيرات، أشرف بنفسه على زراعتها، مثل البندورة، والخيار، والبصل الأخضر، وما الى ذلك من مزروعات تستخدم في كل بيت أردني.
قالت سعدية الجابري ان وصفي التل لم يستخدم منصبه كرئيس وزراء لتحقيق غايات شخصية على الإطلاق، لم يأمر وزارة الزراعة، أو الحراج، أن توفر له البذور، والأسمدة، والشجر، والعمال لزراعة الأرض، ولم يطلب مساعدة مهما كان نوعها من الحكومة، بالرغم من أنه صاحب ولاية على الدولة كلها، ويستطيع تجييش الجميع لمصالحه الشخصية لكنه لم يفعل.
أخيراً، قالت سعدية الجابري ان زوجها الشهيد وصفي التل كان يفتخر بأنه من طبقة الفلاحين، وبأنه عاش ملتصقاً بالأرض، بل لقد أوصى بأن يدفن في منطقة الكمالية التي تعايش معها في بداية حياته الوظيفية، وأن تراب الوطن بالنسبة له لا يعادله تراب في الدنيا كلها، وهو جنته التي يتمنى أن يكون له قبراً في باطنها، لهذا طلب أن يُدفن في تراب أرضه، لذلك طلبت سعدية من الملك الراحل تنفيذ وصيته، ودفنه في أرض الكمالية، وهذا ما حدث فعلاً؛ إذ بعد عدة سنوات، نُقل جثمان الشهيد، ودفن في جزء من أرضه، وارتاح الجسد من وعثاء التنقل، والسفر، والحكم…
ألف رحمة ونور على روحك الطاهرة يا شهيد الأمة، وقائدها المخلص لتراب الأردن الطهور..