المرونة الاقتصادية جوهر الاستشراف التنموي

28 فبراير 2022
المرونة الاقتصادية جوهر الاستشراف التنموي

بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني

إستاذ مشارك سياسات عامة

كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية

في كتاب صدر منذ نحو ثلاثة أعوام للمؤلف ريك هانسون عن مفهوم المرونة في مكوِّنات الإنسان، يشير فيه إلى أهمية الاعتماد على النفس، وليس الغير في تنمية الإمكانات الفردية، عبر التركيز على اثنتي عشرة نقطة قوة داخلية حيوية في الإنسان، وصولاً إلى تقدير الذات والسلام الداخلي. وبالرغم من أنَّ كتاب الدكتور هانسون يختصُّ بالفرد أكثر من الحديث عن الدول، فإنَّ الشاهد مما يقدمه الكتاب ينطبق على الدول كما ينطبق على الفرد. فالعالَمُ اليوم يمرُّ بالعديد من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، باتت جائحة كورونا أقلها خطراً، والشعوب اليوم تمرُّ بتحديات اقتصادية، ليس على مستوى توفير الاحتياجات الأساسية من خلال الإمكانات الذاتية والدخل الفردي فحسب، بل حتى من خلال الوصول إلى وظيفة مناسبة توفّر الحد الأدني للحياة الكريمة. المرونة الاقتصادية اليوم تُحتِّم على صنَّاع القرار حول العالم العمل بهدوء وبقوة في الوقت نفسه، للوصول إلى ما تصبو إليه الشعوب حول العالم من متطلبات المعيشة اليومية من جهة، ومن تنمية حقيقية تتواءم وقدرات الاقتصاد الوطني من جهة أخرى. ولعلَّ المحلل للنقاط الاثنتي عشرة التي ذكرها الدكتور هانسون في الإنسان، يجد أنَّ هناك أيضاً ما لا يقل عن عدد مماثل من النقاط في الاقتصادات، يمكن لصانع القرار الحصيف، المرِن، الرشيد، الواثق بنفسه وبقدراته، أن يصل إليها وأن يحوِّل التحديات في الاقتصاد إلى فرص حقيقية وإلى نقاط قوة تحقِّقُ تنمية ملموسة للدول. ويمكن في هذه العجالة تلخيص النقاط الاثنتي عشرة المحورية والمُحدِّدَة للمرونة الاقتصادية في أيِّ اقتصاد فيما يلي. أولاً: توافر العنصر البشري والطاقات البشرية الشابة خاصة. ثانياً: توافر الموارد الطبيعية المعدنية. ثالثاً: توافر مقومات جغرافية متميزة. رابعاً: المناخ والبيئة المُشجّعة. خامساً: الاستقرار الأمني. سادساً: الاستدامة المجتمعية. سابعاً: الموقع الجغرافي المميز. ثامناً: الشراكة الحقيقية مع القطاع الخاص الجاد والحيوي. تاسعاً: توافر البنية التحتية المُحفّزة. عاشراً: توافر البنية الفوقية من قوانين وأنظمة وإجراءات قادرة على التأقلم مع متطلبات التطوُّر العالمي، حادي عشر: المؤسِّسية والعمل المؤسَّسي، وأخيراً وليس آخراً، بل والأهم: الرؤية القيادية والتوافق بين القيادة والشعب. الدول التي تتوافر فيها تلك المعطيات، ليس لديها عذرٌ في عدم التقدُّم، أو في عدم تطوير اقتصادها بما يتناسب وتنافسيته الحقيقية، آخذاً في الاعتبار نوعية وكمية توافر موارده الطبيعية والبشرية. ولعلَّ أهم ما يمكن الحديث عنه في منظومة المرونة والتطوير هو النظام التعليمي المبنيُّ على ثلاثة أعمدة أساسية هي التربية ثمَّ التعليم، وما يحتويه ذلك من منظومة القيّم والأخلاق، والعماد الثالث، الذي بات الأكثر أهمية في عالم اليوم، هو المهارات، وما يوفره ذلك النظام التعليمي من مهارات حقيقية في مجال الرقمنة، واللغات، ومهارات الاتصال والتواصل وتنمية القدرات الذاتية للأفرد. الاقتصادات التي تعتمد هذه المنظومة التعليمية المناسبة، وتحقِّق، أو تُعظِّم من نقاط قوتها الاثنتي عشرة المذكورة أعلاه، ليس أمامها إلا أن تتقدَّم، شريطة اختيار القيادات التي تؤمن بنقاط قوتها، وتعمل على تعظيمها، وتعي نقاط ضعفها، فتعمل على تحويلها إلى نقاط قوة، وتدرس التهديدات والأزمات التي تمرُّ بها الدولة، وتحوِّلها إلى فرص واعدة تخدم الاقتصاد. في العالم أمثلة كبيرة على المرونة الاقتصادية التي حوَّلت الدول من مواجهة التحديات إلى التقدُّم والازدهار؛ منها سنغافوة، الدولة التي كادت تكون منبوذة من جوارها، فلا يكاد يقبل أحد بضمها أو احتضانها، إلى الدولة الأولى في العالم في مجال التنافسية، وجذب الاستثمارات، فهي اليوم الرقم الصعب في عالم التنافسية العالمية. وهناك كوريا الجنوبية، التي تحوَّلت إلى أيقونة تصنيع عبر مرونة تطوير مهارات الإنسان ومرونة البنية التحتية، والبنية الفوقية، وتطوير مهارات الإنسان، وكذلك  دولة آيرلندا التي تحوَّلت من دولة يهاجر أبناؤها للعمل في كل دول أوروبا وأمريكا الشمالية، إلى دولة استعادة العقول، وأصبحت أكبر مُصَدِّر للتكنولوجيا لمنطقة أوروبا، فأصبحت جاذبة للرياديين والمبدعين من أبناء شعبها المهاجرين وغيرهم، بدلاً من أن تبقى دولةً لتصدير العقول. أمّا البرازيل، فقد عملت على الاثنتي عشرة نقطة مجتمعةً، وحقَّقت نتائجَ متقدمةً على المستوى المجتمعي والاقتصادي. وفي المنطقة العربية، هناك دولة الإمارات العربية المتحدة التي تطبِّق أقصى درجات المرونة الاقتصادية، وتتقدَّم على الجميع في مجالات الرشاقة المؤسَّسية، واستشراف المستقبل، والريادة والإبداع. وأخيراً ظهرت جهود ملموسة في المملكة العربية السعودية التي تسعى ضمن رؤية جديدة 2030 للوصول إلى مرونة عالية ضمن الاثنتي عشرة نقطة المشار إليها، مع التركيز بشكل واضح على تطوير الموارد البشرية المحلية، واستغلال الموارد الطبيعية في الصناعة، والسياحة، وفي التطوير المجتمعي. والأردن مؤهَّل أيضاً لأن يعود إلى السرب عبر الاثنتي عشرة نقطة، وعبر السياسات والرؤى الملكية المرنة باستمرار، وكان آخرها الرسالة الملكية التي دعت إلى مكونات النقاط الاثنتي عشرة السابقة جميعها، وسبق ذلك الأوراق النقاشية لجلالة الملك. ويبىقى على الحكومات أن تلتقط الرؤى الملكية،  وتعمل عليها، مع متابعة ملكية تضمن الاستمرارية، مهما تغيرت الحكومات.